من أعظم الخطط الدينية في الإسلام مباشرة الفتوى وتقرير الأحكام الشرعية لما يقع من النوازل ويطرأ من جديد الحوادث والوقائع في مختلف مجالات الحياة، وبقدر ما تستمر خطة الإفتاء راشدة مهدية موكولة إلى الأكفاء من العلماء الراسخين الأقوياء والأمناء تستمر الحياة ربانية شرعية موصولة بخالقها ناهلة من معين شريعته وينبوع حكمته، لكن ذلك مشروط بمحافظتها على منهجها الإسلامي وضوابطها الشرعية ومستواها العلمي الذي لا يمكن مباشرتها إلا به ويدخل في ذلك علاقتها الوثيقة بالقواعد الفقهية التي تعتبر عنصرا من عناصر قوتها وتعلق الفتوى بالقواعد الفقهية له جهتان: جهة اعتماد الفتوى على القواعد الفقهية وجهة اشتمال القواعد الفقهية على موضوع الفتوى، أما الجهة الأولى فنعني بها أن إصدار الفتوى لا يتم إلا إذا أخذت حقها من تصور النازلة وإعمال النظر الفقهي فيها ومن مشمولات هذا النظر الفقهي الاستعانة بالقواعد الفقهية في الوصول إلى الحكم الشرعي الذي يقرر في الفتوى وأما الجهة الثانية فنعني بها أن من موضوعات القواعد الفقهية الفتوى، بمعنى أن هناك قواعد فقهية قد صيغت في موضوع الفتوى فهي صالحة لتنظيمها وتحصينها وضمان سلامتها ورشادها وسنتناول في هذا البحث هاتين معا كل واحدة منهما في مبحث. المبحث الأول: اعتماد الفتوى على القواعد الفقهية القواعد الفقهية هي أحكام كلية استنبطها الفقهاء من أصولها الشرعية وأدلتها النقية ومن خصائصها اتصافها بالتجريد والعموم والكلية والشمول، وهي بذلك تمتلك قوة الصلاحية لكل زمان ومكان ولسان واستيعاب التطورات ومواكبة التغيرات ومن ثم فإن اعتماد الإفتاء عليها هو اعتماد على أصولها وأدلتها، واكتفاء على ما يراد بالفتوى حسن تنزيلها وللإفتاء الدوام والاستمرار وحسن توفيق مؤسستها إلى الثبات والاستقرار، غير أن هذا الاعتماد والاتكال لا ينم إلا إذا تمكن المفتي من أدائه وكان محسنا لآلته خبيرا بمادته، وفيما يأتي عن كل ما يدخل في ذلك: أولا أن تكون القاعدة معروفة منقولة والمقصود بذلك أن المفتي حينما يريد الاعتماد في فتواه على قاعدة فقهية يجب أن تكون قاعدة معروفة عند الفقهاء متداولة بينهم حيث يكون قد كثر إعمالهم لها وتناقلوها جيلا بعد جيل وهذا من شأنه تحقيق الاطمئنان إلى الفتوى ويضمن السكون إليها لاعتمادها على قاعدة مشهود لها بالتداول والإعمال وجريانه على ألسنة الفقهاء، وإذا اعتمد المفتي على قاعدة مجهولة مشكوك في نسبتها إلى الفقهاء ولا يعرف لها أصل في كتبهم ولا سند في مصنفاتهم فإن فتواه تكون ضعيفة منبوذة لا تطمئن لها النفس ولا يرتاح إليها القلب ومن ثم فإن المفتي إذا أراد تحليل الفتوى وبناء حكمها على قاعدة فقهية ينبغي أن يعتمد القواعد الفقهية التي صح نقلها عن الفقهاء وشاعت معرفتها بينهم بحيث لا يعرف عنها نكارة ولا جهالة ولا اختلال في ثبوتها وإن عدم الالتزام بذلك يورط الفتوى في ضعف مستنداتها وهشاشة أصولها ويشكك في مصداقيتها وسلامتها. ثانيا- أن تكون القاعدة ذات حجية: القواعد الفقهية تتفاوت فيما بينها في أمور كثيرة منها التفاوت في الحجية والدليل، فهناك القواعد التي تعتمد في أحكامها على النصوص الشرعية المعتبرة وتستند في مضامينها إلى أدلة عقلية أو نقلية، وهناك قواعد لا ترقى إلى ذلك وإنما هي عبارات وصيغ فقهية وردت عند بعض الفقهاء في سياق الجمع بين الأشباه والنظائر في الفروع والجزئيات والربط بينها في نسق واحد في ألفاظ جامعة، فهذه ليست محل للاعتماد عليها في تقرير حكم الفتوى وإنما هي مفاتيح تعين المفتي على الوصول إلى المطلوب وترشده الى المواطن والمواضيع التي يجب أن يطلع عليها من كتب الفقهاء لينال المرغوب. ثالثا- اعتماد قواعد المذهب وعدم الخروج عنها: للمذهب المالكي قواعده الفقهية التي تجمع فروعه ومسائله وقد عرضها أئمة المذهب في مصنفات ومؤلفات ومتون و أرجوزات ومن أشهرها كتاب الفروق للقرافي وقواعد المرقمي وإيضاح المسالك للونشريسي وغير ذلك من الأعمال الجامعة لقواعد المذهب، وإنما فعلوا ذلك ليستوعبه المبتدي و يستبحر فيه المنتهي ويتخذه المفتي سندا له ومرجعا لفتواه. وقواعد المذهب منها الخاصة به ومنها المشتركة بينه وبين غيره من المذاهب الفقهية الأخرى وكلها ينبغي الاعتماد عليها والاستعانة بها في تقرير الفتوى وعدم الخروج عن نطاقها حتى لا تكون الفتوى خارجة عن المذهب لأن خروجه عنه يفضي إلى التلفيق وهو محظور باتفاق الفقهاء. رابعا وخامسا- تقديم المتفق عليه من القواعد وتقديم المشهور من القواعد الخلافية: قواعد المذهب التي يعتمدها الفقهاء في الفتوى وتقرير الأحكام منها المتفق عليها داخل المذهب ومنها المختلف فيها وهي التي تصاغ غالبا بصيغ استفهامية مشعرة للخلاف كما نجده عند الونشريسي في نهر المسالك وعند الزقاق في المنهج المنتخب إلى أصول المذهب، حيث استهل أرجوزته بجملة من القواعد الفقهية جرى فيها الخلاف بين فقهاء المذهب وهي التي ساقها مصدرة بأداة استفهام المشعر بالخلاف مثل هل الغالب والمحقق أم لا؟ هل المعدوم شرعا كالمعدوم حسا أم لا؟ هل الموجود شرعا كالموجود حقيقة أم لا؟ إلى غير ذلك من القواعد الخلافية التي تتضمن كل واحدة منها قولين في المذهب قد يكون أحدهما أشهر من الآخر وقد يتساويان فينبغي على المفتي عند الاستعانة بالقواعد الفقهية في المذهب أن يقدم المتفق عليه منها على ما سواها، فإذا كانت كلها خلافية فليقدم المشهور من قوليها وإلا رجح أحد شطريها بما ثبت إليه من المرجحات في المذهب إذا استويا وتعادلا. سادسا- تحقيق معنى القاعدة المراد الاستعانة بها: المفتي حينما يستند في فتواه على قاعدة فقهية في المذهب ينبغي قبل تعريفه الفتوى أن يحقق معنى تلك القاعدة ويتحقق من حكمها الكلي الذي تشتمل عليه، لأن عدم تحقيق ذلك يوقعه في الزلل فقد يبني فتواه على قاعدة فهمها على غير وجهها الصحيح الذي قرره الفقهاء وتداولوه وتناقلوه، ومما يعين على فهم القاعدة وإدراك معناها الوقوف على صيغها التي بها وردت عند الفقهاء فإن صيغ القاعدة يفسر بعضها بعضا فتستبين القاعدة وتتضح فكرتها ومثل ذلك الوقوف على القواعد ذات العلاقة بها كالقواعد الأعم منها والأخص منها والقواعد التي تعتبر قيدا لها أو استثناء منها أو قسيمة لها أو غير ذلك من وجوه العلاقة بها فإن ذلك يساعد على إبراز المعنى وتوضيح المراد. سابعا وثامنا- التأكد من انطباق القاعدة على فروعها والتأكد من اندراج الفروع في قاعدتها: المفتي حينما يعتمد في فتواه على القاعدة الفقهية فإنه يعتبر النازلة التي يفتي فيها فرعا من فروع تلك القاعدة وأحد الأشباه والنظائر التي تنتظم في عقدها فيجب أن يتأكد بالبحث والنظر من صحة تطبيق تلك القاعدة على النازلة المبحوث فيها من جهة وصحة اندراج النازلة في حكمها، من جهة ثانية لأن القاعدة قد تبدو ذات صلة بالخبر المبحوث عن حكمه فإذا فحصت وجدناها بعيدة عنه وكذلك الأمر بالنسبة للفرع قد يبدو أنه من فروع القاعدة فإذا وقع السبر والتحقيق تبين أنه ناء عنها، ومن ثم وجب على المفتي قبل إصدار فتواه المبنية على قاعدة فقهية في المذهب أن يتأكد من علاقة الانطباق والتفرع بينها وبين الجزئية المبحوث فيها مثال ذلك إذا أراد المفتي أن يقرر حكم الاباحة والجواز فيما هو محظور لأصل بموجب الضرورة عملا بقاعدة الضرورات تبيح المحظورات فلا بد من إمعان النظر في مدى انطباق هذه القاعدة على المسألة محل البحث والنظر ومدى اندراجها في عموم حكم القاعدة حتى لا يدخل فيها ما ليس منها من الأمور الحاجية التي لا تلحق بها أو التحسينية التي لا تقرب منها. تاسعا- مراعاة قيود القاعدة والمراد من ذلك أن المفتي وهو يبني حكم فتواه على قاعدة فقهية في المذهب يجب أن يبحث عما إذا كان الفقهاء قد قيدوها بقيود فيراعيها في الفتوى أو أطلقوها عنها فيعملها حينئذ على إطلاقها فقاعدة الضرر يزال قيدها الفقهاء بقاعدة أخرى الضرر لا يزال بمثله، وقاعدة الضرورات تبيح المحظورات قيدوها بقاعدة أخرى الضرورة تقدر بقدرها وقد ينص على قيد القاعدة في صيغتها كقولهم الأصل بقاء ما كان على ماكان مالم يرد دليل بخلاف ذلك، فهذه قاعدة ليست على إطلاقها وإنما هي مقيدة بما لم يرد على ما يدل على خلافها، وعلى المفتي أن يراعي ذلك إذا بنى عليها حكم المسألة ويدخل في مشمولات قيود القاعدة، شروطها سواء ورد الشرط في نص القاعدة أو ورد منفصلا عنها في قاعدة مستقلة فإن الشرط داخل في عموم القيد وقد يقع الخلاف في القاعدة من جهة حملها على القيد أو تركها على إطلاقها كقاعدة نقل شبهة الملك بالملك في الريع الفاسد قيل إنها مقيدة بالمجمع على فساده وقيل إن ذلك يشمل المجمع عليه والمختلف فيه. عاشرا- مراعاة الاستثناء من القاعدة: فالمفتي عند اعتماده على القاعدة الفقهية في تقريره الفتوى يجب أن يعتمد على ما استثناه الفقهاء منها ويقتصر في التخريج على ما هو من مشمولاتها وفروعها المندرجة فيها، فقد ذكر الفقهاء جملة من قواعد المذهب واستثنوا منها فروعا صح النقل في استثنائها من ذلك قاعدة الواجب لا يسقط بالنسيان فقد استثنوا منها سورا لا تسقط بالنسيان قال العلامة القرافي رحمه الله الاصل ان الواجب لا يسقط بالنسيان. وهذه جملة من الأمور التي يجب على المفتي التنبه لها عندما يريد الاعتماد على القواعد الفقهية لتحرير الفتوى، فإن اعمال القواعد وبناء الفتوى عليها أمر يستوجب العلم بمسالكه ومعرفة غياهيبه وفقه مفاصيله. المقال عبارة عن مداخلة للدكتور محمد الروكي في الندوة العلمية الوطنية حول موضوع: "الفتوى بين الضوابط الشرعية والتحديات المعاصرة"