أكد تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني أن سياسة الأمر الواقع التي انتهجتها إسرائيل طيلة عقود من الزمن لم تكن لتؤتي أكلها لو لم يكن خصمها العربي بليدا ومزاجيا يتحرك بردود الفعل وتنطفئ جذوة غضبته بعد حين وبشكل سريع. ومشكلة ''المزاجية البليدة'' ليست في ردود الفعل العاطفية غير المنتجة للحلول فحسب، بل في العجز التام عن التصرف حيال المواقف المعقدة التي يضع الخصم الصهيوني الأمة أمامها اليوم. آخر تلك المواقف المعقدة يتعلق بالقانون الذي صادق عليه الكنيست الإسرائيلي أخيرا والقاضي بعدم الانسحاب من القدسالشرقية ومن الجولان إلا بعد الاستفتاء. والقرار يهم أراض احتلتها إسرائيل بعد سنة 1967 حيث احتلت القدسالشرقية وهضبة الجولان منذ حرب يونيو 1967 وضمتهما على التوالي عامي 1967 و.1981 والمجموعة الدولية لم تعترف أبدا بهذا الضم وتعتبر الجولان والقدسالشرقية أراض محتلة. والقرار يحمل رسالة خطيرة مفادها أن مستقبل تلك الأراضي رهين بقرار إسرائيل وحدها. ما الذي نتوقعه من القادة العرب الذين خسروا اليوم بوضوح معركة ''الأرض مقابل السلام''، تجاه هذا القرار مما يختلف عن مواقفهم السابقة تجاه قرارات وجرائم إسرائيل؟ لقد سارعت سوريا والسلطة الفلسطينية إلى شجب القرار واعتباره مخالفا للقانون الدولي وضاربا بعرض الحائط كل الجهود المبذولة حتى الآن لإيجاد ''تسوية'' سلمية. وكما هو معتاد لم تتخلف الجامعة العربية عن منطق الشجب والتنديد بهذا الإجراء الذي اعتبرته ''انتهاكا آخر لميثاق الأممالمتحدة وقراراته الشرعية القاضية بانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة إلى حدود الرابع من يونيو عام ,''1967 وطالبت المجتمع الدولي ب''العمل على حمل إسرائيل على التوقف عن مثل هذه الإجراءات التعسفية والاستفزازية والتمسك بقرارات الشرعية الدولية''... ولكن ما الذي تستطيع تلك المواقف ومثيلاتها، التي سوف تصدرها الدول العربية والإسلامية بل والعالمية تباعا، القيام به؟ وما تعني ''مبادرة السلام العربية'' في ضوئه؟ وما جدوى الحديث عن المفاوضات بعد هذا القرار؟ إن اعتبارات كثيرة تجعل للقرار الإسرائيلي الأخير دلالات خطيرة. فمن جهة أولى، فالقرار يعني أن إسرائيل اختارت مسار خاصا بعيدا عن ''الجهود الدولية'' كونه جاء مباشرة بعد فشل مسلسل المفاوضات الجديدة برعاية أمريكية ، وخطورة هذا المعطى أنه يكشف أن أمريكا أبعد من أن تلعب أي دور ينصف الفلسطينيين. ثانيا، صمت الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي لا شك قد علمت بإعداد القرار وطبخه، يكشف تآمرها على خلق واقع سياسي داخل إسرائيل يرغم المتعاملين معها على احترامه و''الاستسلام'' له. ثالثا، القرار يندرج ضمن آلية سن القوانين الوطنية في إستراتيجية إسرائيل للالتفاف على القوانين الدولية. وجاء بعد قرار خطير سابق اتخذ قبل أقل من شهرين ويتعلق باعتماد قانون الجنسية الذي يشترط الولاء للدولة اليهودية. وهو القانون الذي يستهدف بذكاء حق العودة الذي تعتبره إسرائيل خطرا يهدد كيانها من الناحية الديموغرافية، والتفت عليه بذلك القانون رغم تنديدات المنددين أفرادا وحكومات ومنظمات حقوقية. رابعا، جاء القرار متزامنا مع قرار تخصيص ثلاثين مليون أورو لتهويد ساحة حائط البراق أو حارة المغاربة، وهي رسالة استخفاف بالعالم الإسلامي أجمع شعوبه وقادته. سادسا، القرار جاء والمنتظم الدولي لم ينصف بعد ضحايا محرقة غزة ومجزرة أسطول الحرية، وهو ما يكشف أن إسرائيل تلاعبت بالمنتظم الدولي واستخفت به. سابعا، جاء القرار في ظل تسارع مشاريع الاستيطان والتي أدت إلى نسف المفاوضات الأخيرة... إن المعركة مع العدو الصهيوني أكثر من معقدة، ولا شك أن إسرائيل تتقن منهجية ممارسة الضغط بأساليب عملية وفعالة. وتفعيل سياسة سن القوانين الوطنية للالتفاف على القوانين الدولية سياسة جربتها إسرائيل في الاستحواذ على الأراضي الفلسطينية من خلال عقود شراء الصهاينة لها من الفلسطينيين كأشخاص، واستغلتها إسرائيل لتهويدها بناء على قوانينها هي. واليوم يخلق ''قانون الاستفتاء'' على الأراضي العربية وضعا قانونيا داخل إسرائيل لا شك أنها، وكما علمنا التاريخ، سوف تنجح لا قدر الله، في ضم تلك الأراضي إلى الأبد. هل تستطيع إسرائيل، التي أصبحت التيارات المتطرفة تحتل مساحة كبيرة في ساحة قرارها السياسي، أن تتراجع عن قانون الاستفتاء ذلك؟ لا أحد يستطيع حتى أن يتخيل إمكانية ذلك دون خسائر داخلية كبيرة. والواقع السياسي داخل إسرائيل لا يؤهل أي حزب لخوض مثل تلك المغامرة مهما أعلن رفضه لها ومعارضته لها. نعم إن ذلك القانون يضع إسرائيل في مرمى ''الضغوط'' الدولية لتفعيل قرارات أممية سابقة واحترام الشرعية الدولية، لكن هذا الأمر يكون له اعتبار إذا كان هناك ولو بصيص احتمال للانتقال من ''ضغوط التنديد'' وحتى قرارات الإدانة، إلى فعل على أرض الواقع يرغم إسرائيل على التراجع، وهو ما لم يتم قط في تاريخ التعامل الدولي مع الإجرام الإسرائيلي في فلسطين ولبنان طيلة عقود. وإنصافا للعرب يمكن القول أنهم خسروا معركة ''الأرض مقابل السلام'' التي ارتكزت عليها مبادرتهم للسلام التي اعتمدوها مند 2002 قبل سن ''قانون الاستفتاء الإسرائيلي. ذلك أنهم نسفوا الركيزة الأساسية لتلك المبادرة. فمبادرة السلام العربية تنص على'' تطبيع العلاقات بين إسرائيل وكل الأقطار العربية إذا انسحبت إسرائيل من الأراضي العربية التي تحتلها منذ عام 1967 انسحابا كاملا''. واستطاعت إسرائيل الالتفاف على هذا الشرط بتجاوز عقبة التطبيع الرسمي إلى التطبيع غير الرسمي التي تنشط فيه في كل الدول العربية والإسلامية بدون استثناء مع اختلاف في الدرجة فقط، والزمان كفيل بتليين ''المتصلبين''! وأمام هذا الوضع وهذا المستجد القانوني الخطير يطرح سؤال البدائل التي يمكن للساسة العرب اعتمادها، بعد أن أعاد قانون الاستفتاء كل الجهود التفاوضية إلى مربع الصفر؟ إن الأمر لا يتطلب إعلان الحرب ضد إسرائيل، بقدر ما يتطلب تفعيل آليات سلمية أكثر ذكاء وأكثر نجاعة ضدها. وخريطة الطريق في هذا الشأن واضحة. تبدأ من تجميد المفاوضات مع إسرائيل، وتمر بتفعيل آلية الحصار الاقتصادي على إسرائيل بسن قوانين وطنية تمنع التعامل معها ومع كل الشركات المتصلة بها. لتنتهي بإعلان الدولة الفلسطينية وحل مشكل السلطة داخلها. نعم هي خريطة واضحة وسهلة! غير أنها من ''السهل الممتنع'' مع الأسف الشديد.