التعاونيات السكنية أمام القضاء : تعاونية الشاوي نموذجا نثير في هذا العدد ملفا قضائيا يستأثر بانتباه الرأي العام المغربي، ويمس بالأساس شريحة اجتماعية واسعة تعاني من أجل توفير سكن لائق بها، وقد رأت هذه الفئة أن السبيل الوحيد للحصول عليه هو تأسيس التعاونيات السكنية، فباعت أمتعتها ورهنت أجرتها، ثم لتجد نفسها تحت رحمة "مافيا السكن"، مافيا الابتزاز والنصب والاحتيال، فلا أجرة أبقت ولا سكنا وفرت، لينضاف إلى ذلك كله ضياع في متاهات المحاكم، وتعد التعاونية السكنية "الشاوي" مثالا لهذا الضياع، فقد قدرت المبالغ المختلسة فيها بالمليارات وعدد الضحايا بالمئات. تأسيس لتعاونية أم تأسيس للمشاكل حسب النظام الأساسي للتعاونيات، فإن التعاونية، جماعة تتألف من أشخاص طبيعيين لإنشاء مشروع (السكن مثلا) يكون الغرض منه تحسين الوضعية الاقتصادية والاجتماعية لأعضائها وتشجيع الروح التعاونية لديهم، فبالإضافة إلى التأطير القانوني أحدثت الدولة جهازا إداريا يسمى "مكتب تنمية التعاون"، يسهر على تشجيع مجالات التعاون (السكن، الفلاحة، الصناعة...) وبما أن المغرب في العقود الأخيرة، وبفعل النمو الديمغرافي والهجرة القروية واتساع المجال الحضري، تكاثرت التعاونيات السكنية بسبب وجود شريحة اجتماعية واسعة، من المغاربة، ذوي الدخل المحدود، يعانون من أزمة سكنية خانقة ويكتوون من نار المضاربة العقارية، ففي هذه الظروف المجتمعة تأسست بتاريخ 19 يوليوز 1991، التعاونية السكنية "الشاوي"، بمبادرة من مجموعة من موظفي إدارة المحافظة العقارية بالرباط، وكان هدفها هو إحداث مشاريع سكنية لأعضائها. اتخذت هذه التعاونية المحافظة العقارية بالرباط مقرا لها (الطابق الثالث)، هذا الاختيار كانت له بعض الإيحاءات الرمزية وهي اكتساب ثقة المواطنين، ذلك بأن المحافظة في وعي هؤلاء هي محل الثقة والحفاظ على الممتلكات العقارية والمستندات والوثائق الرسمية والعرفية وغيرها، هذه الثقة الزائدة جعلت دائرة الانخراط داخل التعاونية تعرف توسعا قياسيا في ظرف 5 سنوات، حيث أصبحت تضم 1050 منخرطا، تشمل موظفين صغارا وكبارا وحرفيين وعمال مهاجرين وغيرهم. أمام هذه الشهرة باتت التعاونية تغطي مجالا حضريا واسعا يشمل مدينة تمارة المركز، وتمارة الشاطئ، والصخيرات وبوقنادل وسكيكينة، وقد قدرت دفوعات المنخرطين بحوالي 10 مليار سنتيم، أمام هذه الأموال الطائلة والمغرية، وفي غياب كامل للمراقبة من طرف الأجهزة الإدارية المعنية، أصبحت التعاونية الجديدة تعاني من اختلالات عميقة، فبدل أن يعمل مجلس إدارتها على حل مشاكل المنخرطين وتحقيق آمالهم في الحصول على سكن ملائم، شرعت في تأسيس منعطف انحرافي خطير في النصب و الإحتيال و مسلسل من التجاوزات و الخروقات انتهت وقائعها أمام الجهاز القضائي. إجراء خبرة قضائية يكشف المحظور: بعد مرور سنوات معدودة عن تأسيس التعاونية، بدأت رائحة اختلاس الأموال تنبعث من جنبات مجلس الإدارة الذي ير أسه "الشاوي"، العضو المؤسس، وهكذا ظهرت تصدعات وجموعات عامة فرعية، انتهت إلى تشكيل مجلس إدارة جديد، وتوقيف المجلس الإداري المؤسس دون أدنى مساءلة أو ابراء للذمة، وكان من بين أهداف المجلس الجديد هو طلب خبرة قضائية عن طريق المحكمة للتحقيق في الاختلاسات وكذلك معرفة الأسباب الحقيقية وراء عدم إنجاز المشاريع الخمسة التي وعدت التعاونية منخرطيها بإنجازها، وقد اقتنعت المحكمة بتعيين خبير عهد إليه إجراء هذه المحاسبة المالية، هذه المهمة التي استغرقت سنة ونصف، انتهت إلى حقائق ونتائج كارثية: أول نتيجة انتهى إليها تقرير الخبير وهي المصير المجهول لمبلغ كبير، يفوق أربعة ملايير من السنتيم، ويمكن تلخيص التجاوزات والخروقات التي وقع فيها المجلس الإداري المؤسس للتعاونية، كما جاء ذلك في تقرير الخبرة ونص الشكاية الموجهة لوكيل الملك، في >إحداث خمسة مشاريع كلها ذات مشاكل دون انجازها: أراضي خارج المدار الحضري مشاريع وهمية أراضي غير قابلة للبناء أراضي مصنفة في وضعية خاصة لا تسمح بإنجاز مشاريع سكنية... هذه الشراءات تمت بطرق ملتوية وتدليسية وبأثمنة باهضة وبتواطئ مع وسطاء يقومون بشراء أراضي بأثمنة منخفضة وبيعها للتعاونية بعد مدة قصيرة بأثمان خيالية وفاحشة.. وسعى المجلس إلى نهب أموال التعاونية بوسائل احتيالية كإبرام العقود مع وسطاء (مقربين)، وصنع اتفاقات مع شركات دفعت لها أموال باهضة دون قيامها بأي عمل، وأداء مبالغ لشركات وأشخاص ذاتين مقابل أعمال وخدمات لم تنجز من جانبهم لفائدة التعاونية ودون مراعاة المقايس وأسعار السوق...<. وقد ذكر التقرير، المؤلف من عشرات الصفحات، مجموعة من الخروقات نذكر منها: نائب الرئيس يقوم بصرف بعض الشيكات وتحويلها إلى حسابه الخاص. مقاولة للبناء والتجهيز تتسلم أموالا هامة من التعاونية دون وجود مستندات أو فاتورات تثبت المبالغ المستلمة. مكتب للدراسات يتسلم مبلغ 240 ألف درهم دون القيام بأي عمل. وسطاء تسلموا عمولات تقدر بالملايين. وتحدث التقرير أيضا عن سيدة تدعى (ل ب)، إحدى قريبات أحد المسؤولين بالتعاونية >اقتنت بتاريخ 1995/12/28 عقارا بمبلغ 6702000.00 درهم وبتاريخ 1995/12/29 فوتت رسم هذا العقار للتعاونية بمبلغ 17090100.00 درهم، و هكذا ففي يوم واحد حققت ربحا قدره مليار و38 مليون و810 ألف سنتيم<. ويظهر من محتويات هذا الملف الضخم تورط عدد كبير من الأشخاص والوسطاء وأصحاب مهن حرة وبعض الشركات، وقد خلصت الشكاية الموجهة ضد المجلس الإداري المؤسس، إلى مطالبة المحكمة بمتابعة الأشخاص المتورطين وإحالتهم على المحكمة في حالة اعتقال نظرا لخطورة الأفعال. إدانة رئيس التعاونية السابق ونائبه بتهمة النصب رغم أهمية الملف والأشخاص المتورطين فيه، تم تقديم شخصين فقط إلى العدالة هما (ص. ف) و( س الشاوي) بصفته الممثل القانوني للتعاونية، وقد اعتقلا طبقا للفصلين 540 و127 من القانون الجنائي المغربي، وتم استجوابهما من طرف الفرقة الجنائية الأولى بمصلحة الشرطة القضائية بتاريخ 27 دجنبر 2001، وصرحا أمامها وكذلك أمام وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بالرباط بسوء التسيير وإنجاز مشاريع وهمية من أجل النصب على الغير. وعند إحالتهما على المحكمة، وبعد عقد عدة جلسات للاستماع إليهما وإلى ملتمسات الدفاع وكذلك النيابة العامة، اقتنعت المحكمة أن المسمى (ص ف)، كان مكلفا بالمداخيل المتعلقة باشتراكات المنخرطين في التعاونية، وأنه كان يوقع شيكات على بياض لفائدة رئيس التعاونية ونائبه، بالإضافة إلى مسؤوليتهما معا في النصب على المنخرطين باصطناع مشروع وهمي وكذلك شراء أرض بالصخيرات غير محفظة وغير مسجلة، بل إن جزءا منها يعتبر محمية استراتيجية وجزء آخر مخصص لمرقف عمومي ومدار طرقي، وكل هذه الأفعال كان الهدف منها توقيع الضحايا في الغلط وهو ما سبب لهم ضررا ماديا ومعنويا،وانتهت المحكمة إلى أن كل العناصر المكونة لجنحة النصب قد توفرت وبالتالي وجب مؤاخذة الظنينين . وبتاريخ 22 يناير 2002، صرحت المحكمة الابتدائية بالرباط وهي تبت في هذا الملف الجنحي التلبسي، بإدانة (ص.ف) والرئيس س الشاوي والحكم عليهما بخمس سنوات حبسا نافذا وغرامة قدرها 5000 درهم، وبالنسبة للدعوى المدنية التابعة، فقد ألزمتهما بأداء تعويض مدني إجمالي، على سبيل التضامن، لفائدة التعاونية السكنية الشاوي، قدره ثلاثة ملايير سنتيم. ثغرات في القانون ومشاكل عديدة. أول ما يمكن ملاحظته في هذا الملف هو عدم متابعة كل المتورطين في هذه القضية وعلى رأسهم نائب رئيس المجلس الإداري لتعاونية الشاوي السابق، كما أن هناك جهات أخرى من وسطاء ومقاولات وأصحاب مهن حرة وأشخاص عاديين وردت أسماؤهم سواء في تقرير الخبرة القضائية أو في نص الشكاية المقدمة للمحكمة. ومن المشاكل القانونية التي واجعتها التعاونية هو إقدام المحكمة الابتدائية على بيع أرض مشروع تمارة بالمزاد العلني، دون علم المجلس الإداري للتعاونية وكذلك دون تعيين قيم ودون مراعاة للأثمان الموجودة في السوق، هذا البيع له ارتباط بطلب بعض المنخرطين للحجز التحفظي على بعض أراضي التعاونية، دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح باقي المنخرطين، وهكذا نجد مثلا منخرطا في مشروع الصخيرات يطلب الحجز على مشروع آخر كمشروع تمارة، هذا المشكل يحيل أيضا على مشكل آخر تتخبط فيه التعاونية ومثيلاتها وهو تعدد المشاريع وكثرة المنخرطين، فيقع تشابك في العلاقات والروابط وتضارب في المصالح. ومما يزيد حدة هذا الإرتباك هو أن الأشخاص الذين يترأسون مثل هذه التعاونيات تنقصهم التجربة والخبرة في المجال العمل التعاوني، هذا الأخير تتداخل فيه جوانب متعددة، تقنية واقتصادية وقانونية واجتماعية،ويمكن إثارة مشكل آخر وهو عدم وجود تأطير ومساعدة تقنية وقانونية من طرف الإدارات المعنية وخصوصا من طرف مكتب تنمية التعاون، وإدارات السكنى والتعمير، فمنذ سنة 1992 و تعاونية الشاوي تعرف اضطرابا واضحا في التسيير و عدم عقد جموعها العامة، ولم تتدخل أية جهة معينة لارجاع الأمور إلى وضعها الطبيعي. و قد سألنا الأستاد سعيد بشير المحامي بهيئة الرباط و أحد المكلفين بالدفاع عن ضحايا النصب من طرف المجلس الإداري السابق عن رأيه في هذه القضية فأجاب بأنه كان من المفروض اعتقال جميع المتورطين، و كان من اللازم فتح تحقيق معمق للوصول إلى الحقيقة و كشف ملابسات هذا الملف حتى تكتمل الصورة أمام القضاء. و قد أشار إلى أن المحكمة كانت صارمة في التصدي لهذا الملف، إلا أن هناك إشكالية كبيرة و هي صعوبة تنفيذ المبلغ المحكوم به لفائدة التعاونية و هو 3ملايير سنتيم، و خصوصا أن بعض المحكوم عليهم في مثل هذه القضايا غالبا ما يتسترون على ممتلكاتهم،و تكون النتيجة هي ضياع حقوق المنخرطين في التعاونية و إقدام الغير علي مزيد من مثل هذه الخروقات. خلاصة رغم وجود قانون ينظم تأسيس التعاونيات و أهدافها، و رغم وجود "مكتب تنمية التعاون"، لم يمنع ذلك من وقوع النصب و الإحتيال على المواطنين الذين رهنوا أجورهم و باعوا أمتعتهم من أجل توفيرسكن ملائم في ظروف الأزمة السكنية التي يعرفها المغرب. و ما عرفته تعاونية الشاوي جاء في الوقت الذي يطول فيه الفساد مجموعة من المؤسسات العمومية الكبرى التي تعرض ملفاتها الآن على القضاء. و نحن إذ نثير ملف التعاونيات السكنية في هذا العدد فإننا نبتغي من وراء ذلك التنبيه إلي الأمور التالية: لابد من تفعيل مراقبة صارمة من طرف الجهات المعنية حتى لا تتكرر مثل الإختلاسات التي عرفتها تعاونية الشاوي و تضيع بالتالي أموال المواطنين. الإشارة إلى أن كثرة المشاريع و عدد المنخرطين يؤدي إلى تشابك المصالح و الفوضى في التسيير و الإلتجاء إلى الحجوزات التحفظية مما يضر بمصالح الجميع. على أعضاء التعاونيات اختيارمجالس إداراتها من بين الأطر الكفأة في مجال التسيير و القانون والمتحلية بالأخلاق الحسنة. عمر العمري