تمثل الأخطاء الطبية نسبة مهمة من القضايا المطروحة أمام المحاكم، بل أضحت هاجسا مؤرقا أمام كل مريض شاءت الأقدار أن يرتمي في حضن طبيب يفترض فيه بذل العناية والحرص الكبير على صحة المرضى، فالقاعدة أنه من واجب الطبيب المختص أن يتخذ جميع الإجراءات التقنية عند إجرائه لأية عملية جراحية، أو تدخل وأن يكون على اطلاع كامل على كافة المعلومات الضرورية المتعلقة بالمريض، وبالعملية وأن يتخذ كافة الاحتياطات، وأن يتأكد من صلاحية الأدوات الجراحية وسلامتها ومدى ملاءمتها، وأن يحترم الاتفاق المبرم بينه وبين المريض. فكثيرة هي القضايا التي تعرض أخطاء في المجال الطبي من طرف أطباء ممارسين، وآخرين في طور التدريب أو من طرف المساعدات سيما خلال الولادة، حيث تتسبب هذه الأخطاء في الوفاة، أو عاهات مستديمة، أو إعادة الجراحة بدون داع.. وما حدث منذ سنوات مع الطفل أشرف بيدوان الذي أصيب بالشلل جراء الإهمال، حيث أظهر تقرير الطب الشرعي أن هناك علاقة سببية بين اللقاح وشلل الطفل دليل كبير على عدم الحرص واللامسؤولية. في قضية اليوم، سنتطرق إلى واحدة من قضايا الأخطاء الطبية أو المسؤولية التقصيرية، حيث خالف الطبيب المشرف على إحدى العمليات الجراحية الاتفاق المبرم مع المريضة مما تسبب لها في تداعيات صحية ومضاعفات كبيرة...فماهي حيثيات هذه القضية. مخالفة اتفاق تقدمت حفيظة بمقال لدى ابتدائية البيضاء تعرض فيه أنها دخلت مصحة من أجل إجراء عملية جراحية على الحويصلة الصفراوية، ونظرا للحالة الصحية لحفيظة/المدعية، فقد عقدت اتفاقا مع الدكتور الذي سيجري العملية الجراحية مفاده أن تجرى العملية بشكل طبيعي. وحدد الطبيب المعالج التكلفة بقيمة 24000 درهما، شريطة أن تتم دون اللجوء إلى تقنية المنظار. لكن بالرغم من الاتفاق المبدئي، فإن الدكتور المشرف على العملية استعمل تقنية المنظار، واضطر بعد ذلك إلى الانتقال إلى تطبيق عملية جراحية عادية إستمرت حوالي ثماني ساعات، وفي الوقت الذي كان من المنتظر أن تمكث المريضة بالمصحة لمدة لا تتعدى خمسة أيام، إضطرت إلى البقاء لمدة شهرين، حيث انتقلت مصاريف العلاج إلى 10089 درهما، ورغم ذلك ظلت الحالة الصحية كما هي، ولم تتحسن حفيظة، مما دفعها إلى التنقل إلى فرنسا لأن السفر ضروري باعتراف الطبيب المعالج، حيث أجريت لها نفس العملية على المسالك الرئيسية التي تربط بين الكبد والأمعاء. أثبتت حفيظة أن الحالة التي آلت إليها صحتها كانت بسبب خطأ مهني، ارتكب بمناسبة إجراء تلك العملية الجراحية، وأن المسؤولية ثابتة في النازلة. والتمست حفيظة قبول طلبها الذي مفاذه الحكم على المصحة المعنية والدكتور المعالج بأدائها تضامنا فيما بينهما أو على أحدهما بأدائه مبلغ 294213 درهما، وهو المبلغ الذي أنفقته من أجل إجراء العملية الجراحية مع الفوائد القانونية، والحكم أيضا بأدائهما مبلغ 20000 درهما كتعويض مسبق مع الفوائد القانونية، وبإحلال شركة التأمين في الأداء مع الأمر بإجراء خبرة طبية عليها. رفض الطلب رفضت شركة التأمين التي ستحل محل المصحة في الأداء طلب المريضة، معللة ذلك بكون المدعية لم تثبت خطأ الطبيب، وأنها لم تثبت سدادها الفواتير. وبناء على الأمر التمهيدي القاضي بإجراء خبرة طبية جديدة أودع تقرير بكتابة الضبط مستخلصا فيه أن ما وقع للضحية كان حادثا جراحيا غير معتمد قد يحصل لأي طبيب مبتدئ أو ذو تجربة كبيرة، وكذا حدد نسبة العجز الكلي المؤقت في ستة أشهر، ونسبة عجز جزئي دائم في 36 في المائة، ونسبة الوجيعة والتشويه على جانب من الأهمية. وبناء على جواب المصحة المعنية، التمست هذه الأخيرة رفض الطلب لعدم وجود ما يبرره، ورفض ما جاء في المقال بناء على مذكرة ما بعد الخبرة والتي التمست الحكم بمسؤولية المدعى عليهما في تحمل الخطأ المهني و الحكم على المصحة و الدكتور بأدائهما للمدعية مبلغ 500 ألف درهما عن التعويض عن الضرر الذي لحق بها، وكذا بأدائهما مبلغ 294213 درهما عن المصاريف الطبية، وبإحلال شركة التأمين محل مؤمنها في الأداء. وفي تعقيب له، نفى الطبيب المعالج مسؤوليته بشكل قاطع، لكن المحكمة وبعد اطلاعها على وثائق الملف تبين لها أن المدعى عليه الدكتور سبق وتعاقد مهنيا مع الطرف المدعي من أجل إجراء عملية جراحية على الحويصلة الصفراوية، وذلك دون اللجوء إلى تقنية المنظار وأنه رغم هذا الاتفاق إلا أنه قام بإجراء العملية بهذه التقنية، وبعد ذلك تطبيق عملية جراحية عادية استمرت حوالي ثماني ساعات، ونتيجة ذلك ارتفعت مدة إقامة الضحية، وكذا مصاريفها ورغم ذلك فإن حالتها الصحية لم تتحسن بل تدهورت أكثر فأكثر مما استدعى تنقيلها على وجه السرعة إلى مصحة بالخارج، وذلك بناء على النصائح الطبية لكل من المدعى عليه وكذا المصحة. استعانت المحكمة بتقرير الخبرة المضادة، الذي أوضح أن ما حصل للمدعية كان حادثا جراحيا غير متعمد قد يحصل لأي طبيب مبتدئ أو ذي تجربة كبيرة، إلا أن الثابت فقها أن الأطباء هم كغيرهم من الناس يخضعون للأحكام العامة في المسؤولية، وهذا يعني عدم استثنائهم ومن في حكمهم من قواعد المسؤولية التقصيرية التي تتوافر بأي قدر من الخطأ وبدون حاجة لأن يكون جسيما و الطبيب في ذلك يتميز عن غيره من الأفراد سواء في الخضوع للقواعد العامة في المسؤولية التقصيرية. *** تعليل المحكمة القاعدة أنه يتوجب على الطبيب المختص أكثر من الطبيب العام اتخاذ كافة الإجراءات التقنية أثناء إجرائه عملية جراحية، أو أثناء أي تدخل طبي منه، وأن يكون قبل المباشرة بإجراء أي عملية جراحية على اطلاع كامل على كافة المعلومات الضرورية المتعلقة بحالة المريض أو بالعملية التي سيجريها وكذا الحالة الصحية العامة للمريض وردود فعله المحتملة وعليه أيضا جمع المعلومات الإضافية التي تساعده وتقوده في تدخله الطبي إلى النتيجة المتوخاة وأن يحتاط في تحضيره العلاج الضروري للحالة المتوقعة أو المحتملة... وتأسيسا على الحيثيات ووثائق الملف ومعطيات النازلة فالدكتور وأثناء قيامه بالعملية الجراحية للمدعية لم يحترم قواعد الاتفاق الذي أبرم بينه وبينها، وكذا لم يوضح في معرض تقريره كيفية لجوءه إلى عملية المنظار أثناء العملية، ومدى الحاجة الماسة إلى ذلك وعنصر الضرورة المفاجئة أيضا عدم اتخاذه الاحتياطات و التدابير اللازمة والمفروضة على طبيب مختص بغض النظر عن النتيجة فالطبيب غير مسؤول عن نتيجة تدخله ولكن فضلا عن ذلك فهو يضمن العمل بالمقاييس الطبية و الاعتناء اللازم ولا يضمن النتيجة. وحيث أن التدخل الطبي للمدعى عليه، و بالطريقة غير المتفق عليها تسبب للمدعية في أضرار جسدية تمثلت في تفاقم صحتها مما حدا بها وبناء على نصائح نفس الطبيب المدعى عليه السفر خارج التراب الوطني قصد العلاج وهو ما كبدها مصاريف إضافية ناهيك عن تلك التي تحملتها بالمغرب جراء هذا العمل الطبي، و الذي وصفته الخبرة المأمور بها بمقتضى الأمر القضائي كان عاديا، وغير متعمد قد يحصل لأي طبيب مبتدئ أو ذو خبرة كبيرة. اعتبرت المحكمة أن الخطأ غير عمدي، وحصرت مبلغ حدود مبلغ مائتي ألف درهم، شاملا لمصاريف التطبيب. *** عبد الجليل بنصابر (محامي بهيئة الرباط) : القضاء المغربي بدأ يستجيب للطلبات المقدمة بخصوص مسؤولية الأطباء يتعلق موضوع هذا الحكم بالمسؤولية التي تثار بمناسبة العلاقة الرابطة بين الطبيب والمريض، هذا الأخير الذي يسلم جسده للأول قصد العلاج، وذلك بإزالة الألم أو التخفيف منها على الأقل، إلا أن الطبيب ملزم في هذا الخصوص بالقيام بواجبه على أكمل وجه، تحت طائلة المساءلة القانونية. فالطبيب حر في أن يختار الطريقة التي سيتبعها للمعالجة المريض، ومبرر هذه الحرية هو طبيعة العلم الطبي، فهو ليس علم يقيني إنما يقوم على الاحتمال والتخمين، كما أن حريته تتمثل في اختيار الطريقة التي يراها ملائمة لحالة المريض ومدى تطور مرضه، وقد نص على هذه الحرية الفصلان 5 و28 من مدونة آداب مهنة الطب. إلا أن هذه الحرية يقابلها ضرورة مراعاة الطبيب لليقضة و الحذر وبدل العناية اللازمة، و الدراية الثامة بحالة المريض ونوع مرضه، وذلك لاختيار أحسن وأنجع الطرق لعلاجه، فأي خطأ من جانبه إلا ويفتح المجال أمام المريض (الضحية) لمساءلته وفق قواعد المسؤولية المؤسسة على ثلاث عناصر هي الخطأ، والضرر، ثم العلاقة السببية ينهما. وفي قضية اليوم، الطبيب أثناء قيامه بالعملية الجراحية للمريض لم يحترم قواعد الاتفاق الذي أبرمه مع المريضة، وذلك بعدم اللجوء إلى تقنية المنظار، بل هو لم يبرر الحاجة الماسة لاستعمال هذه التقنية وعنصر الضرورة المفاجئة رغم أنه يعلم من خلال تقرير المريضة الطبي السابق لإجراء العملية خطر تقنية المنظار عليها إلا أنه جازف بذلك دون اتخاذ الاحتياطات و التدابير اللازمة، والمفروضة في طبيب مختص، مما تسبب للمريضة في المكوث بالمصحة مدة شهرين، عوض 5 أيام التي تتطلبها مثل هذه العمليات. من جهة أخرى، تفاقمت حالة المريضة، فاضطرت إلى السفر إلى فرنسا بناء على نصيحة نفس الطبيب المعالج لإعادة إجراء العملية، وهو ما يعني أن هذا الأخير تسبب لها في تكبد مصاريف إضافية، وضاعف من آلامها نتيجة الخطأ الذي ارتكبه نتيجة عدم حرصه. المحكمة حينما قضت للمريضة بالتعويض بعدما أقرت مسؤولية الطبيب المعالج، تكون قد طبقت قواعد المسؤولية التقصيرية المنصوص عليها في قانون الاتزامات و العقود المغربي، وهذا هو التوجه الذي يسير عليه القضاء حاليا، فالمبدأ الأساسي الذي تقوم عليه المسؤولية الطبية هو الخطأ، بحيث إذا انتفى هذا الأخير فلا مسؤولية ولا تعويض، أما إذا كان العكس، فالقانون ينص على مساءلة الطبيب. وتعريف الخطأ بشكل عام هو إخلال بالتزام سابق مع إدراك المخل به لهذا الالتزام، وهو الشيئ الذي لم يراعيه الطبيب في هذه القضية، حيث أنه التزم مع مريضه بعدم اللجوء إلى تقنية المنظار، لكنه استعمل ذلك، كما أنه لم يبذل العناية و الحرص اللازمين فيه كمختص لتفادي ما آلت إليه وضعية المريض الصحية مما ألحق بها ضررا تبث للمحكمة من خلال التقارير الخبرة أن العلاقة السببية بينهما متوفرة، فتفاقم الضرر والاضطرار إلى السفر إلى فرنسا كانا نتيجة مباشرة لإخلال الطبيب (المدعى عليه) لالتزامه مع الضحية وعدم بذل الحرص المطلوب فيه كمختص. في الختام، لابد من الإشارة إلى أن القضاء المغربي في الآونة الأخيرة بدأ يتفاعل ويستجيب لمجموعة من الطلبات المقدمة بخصوص مسؤولية الأطباء أثناء مزاولتهم لمهامهم، وهو ما ينم عن استيعاب القضاء المغربي للواجب المفروض على فئة الأطباء، و الحرص و اليقضة الواجب توفرهما أثناء معالجة المريض رغم كون الطبيب لا يلتزم مع مريضه بتحقيق نتيجة إنما بذل عناية باستثناء بعض المجالات الطبية التي يكون فيها التزام الطبيب بتحقيق نتيجة كما هو الحال في طب التجميل لكن الإشكال الذي لا يزال مطروحا سواء على مستوى التشريع و القضاء المغربيين هو جعل الإثبات على عاتق المريض (الضحية) هو أمر صعب بل ومستحيل في أغلب الحالات نظرا لجهل الناس بمجال الطب المعقد و الصعب، في حين يكون من الأحسن قلب عبئ الإثبات كما هو عليه الأمر في تشريعات مقارنة كما في فرنسا حيث يلقى عبئ الإثبات على الطبيب ليبين أنه فعل ما كان ضروريا وواجبا عليه وزأن ما حصل للمريض من مضاعفات لم يكن نتيجة خطئه وإنما هو نتيجة حتمية لمرضه.