الأصل أن شهر رمضان محطة كبيرة في حياة المسلم صحيا وروحيا، تريح البدن وتحديداً المعدة وتسمح بصيانتها بعد تعب العمل 11 شهراً، وتمنح الروح فرصة للسمو بها وربطها بخالقها أكثر، والتخفف من عناء الجري وراء الدنيا، وتتيح فرصة للتأمل والاختلاء بالنفس ومراجعتها ولجم أطماعها وتزكيتها. هذا هو الأصل في الشهر الفضيل، لكن ما يظهر في عموم العالم العربي والإسلامي يشير إلى أن شهر رمضان تحول من شهر المغفرة والقرآن إلى شهر المسلسلات والفكاهة والأفلام والبرامج الترفيهية والفوازير و...؟ وتحول شهر الصيام إلى شهر يتضاعف فيه حجم الاستهلاك في مجمل الأسر المسلمة ثلاث مرات. بعض الفضائيات تقصف المشاهد قبل طلوع هلال رمضان بالإعلان عن وجباتها +الدسمة؛ وعن برامجها الرمضانية، وتستعد بكل إمكاناتها وبتنافس شرس على مستوى الأفلام والمسلسلات والفكاهة والموسيقى، وأيها يشد المشاهد أو الصائم إليه شدا، فتمسكه بمسلسل لآخر، ومن فكاهة لفوازير، لا تضع في حسبانها وبرمجتها لا صلاة عشاء ولا تراويح ولا هم يحزنون. لا أريد أن أقدم موعظة حول فضائل الشهر الفضيل وكيفية صيامه فذاك من اختصاص الخطباء والعلماء والوعاظ، ولكن أتساءل فقط، وهناك عشرات الأسئلة تطرح نفسها على علماء الدين والاجتماع والأطباء والمجتمع أيضا، حول كيفية حصول التطبيع مع هذا الوضع؟ وبات شهر رمضان مع توالي السنوات أشبه بمهرجان سنوي للاستهلاك و +الفرجة؛، الأمر الذي يتناقض مع منطق الصيام نفسه وفلسفته. بكل تأكيد يقف أبناء الديانات الأخرى والملاحظون والدارسون المهتمون بحياة المسلمين مصدومين وعاجزين عن فهم هذا التناقض الفظيع بين مقاصد الصيام الصحية مثلا، ونسب الاستهلاك في عموم البلاد الإسلامية في شهر رمضان. شخصيا لا أميل للتفسير التآمري، بأن هناك جهات خفية تقف وراء هذا التحول لإضعاف ارتباط المسلمين بدينهم وشعائرهم التعبدية والتشويش على صيامهم، لأن هذا التفسير يعفي الأسر المسلمة والعلماء والأطباء والإعلام من مسؤوليتهم الكبيرة في هذا التحول الدرامي لشهر رمضان، من شهر القرآن والصيام والقيام والصدقة والتواضع والتسامح والبسمة، إلى موسم ل +الفرجة؛ والأكل والتباهي والعبث. والحال أن الجميع مطالب بالتعاون لتصحيح هذا الوضع في الأذهان والأفهام أولاً، والاجتهاد في تنزيل ذلك على الواقع. بهذا التصحيح سنقول للفضائيات عندك 11 شهراً قدمي فيها ما شئتِ من مسلسلات وأفلام وبرامج فكاهة وموسيقى وما إلى ذلك، لكن ارحمينا في هذا الشهر الكريم، دعينا نجلس مع أنفسنا قليلا نراجعها ونزيل الصدأ من قلوبنا في هذه المحطة الإيمانية العظيمة، لا تشوشي عليها (النفوس والقلوب) وسنكون لك من الشاكرين إذا قدمتِ لنا برامج ثقافية وترفيهية وفكاهية ومسلسلات تنسجم مع البُعد الروحي للشهر الفضيل وأجوائه، ومجالس علمية وبرامج دينية تقدم الإسلام بشكل جذاب ومتجدد وبوسطية واعتدال. قد يقول قائل إن هذا طرح ساذج، فهناك ماكينة استهلاكية قوية لا تعرف الرحمة، ومصالح مادية كبرى تحققت من وراء هذا التحول في تعامل عموم المسلمين مع رمضان، ومسلسل التصحيح لن يصمد أمام هذه الماكينة التي تتفنن في جذب الناس وصناعة أذواقهم والتحكم في اختياراتهم. لكن هذا لا يعني عدم المحاولة ومقاومة التطبيع مع التحول المذكور من البوابة الدينية والثقافية بقيادة العلماء والأطباء والخطباء والمجهود التربوي داخل الأسر، حتى لا يتواصل مسلسل فقدان المجتمع أجواء إنسانية واجتماعية وروحانية جميلة جدا كانت تصاحب شهر رمضان وباتت اليوم جزءا من التاريخ والتراث، وحتى لا يفتح الباب لبعض الأصوات الشاذة في المطالبة بالمجاهرة بالإفطار، والداعية إلى فتح المطاعم والمقاهي بالنهار و +ترك الحرية للناس (المسلمين) فمن شاء فليفطر ومن شاء فليصم؛. هذه الأصوات اليوم شاذة ومعزولة جداً، لكن عدم مقاومة التطبيع مع إفقاد شهر الصيام بُعده الروحي والإيماني، قد يوسع من دائرة تلك الأصوات التي تتحول من فقاعة وخرجة صحافية اليوم إلى ظاهرة اجتماعية غدا، تبرر وجودها بدعوى الحرية الفردية وحقوق الإنسان، طمعا في دعم المنظمات الحقوقية الدولية والمطالبة بتغيير القوانين التي تجرم في العالم العربي والإسلامي على المسلمين المجاهرة بإفطار رمضان من دون عذر شرعي. البعض قد يستبعد هذا السيناريو ويعتبره مبالغة، لكن الوتيرة السريعة لحجم التطورات والتغيرات في عادات وقيم المجتمع العربي والإسلامي، وخضوعه لعملية سلخ ومسخ رهيبة لهويته وثقافته وخصوصياته في عالم يُراد له أن يكون على نمط واحد، تجعل هذا السيناريو وارداً إن لم تشتغل المؤسسات الثقافية والدينية والتربوية في العالم العربي والإسلامي بقوة وفاعلية موازية لقوة تيار السلخ والمسخ وآلياته وأساليبه.