عقد بالعاصمة اللبنانية بيروت، اللقاء التحضيري الأول للقمة الثقافية العربية، حيث اجتمعت اللجان الفرعية المنبثقة عن اللقاء في أربع جلسات، ناقش فيها المشاركون من أكاديميين ومثقفين ومبدعين عرب، مواضيع مختلفة ترتبط ارتباطا وثيقا بالحياة الثقافية العربية، وبلغ عددها ثماني لجان أهمها على الإطلاق لجنة إنقاذ اللغة العربية، التي ترأسها الدكتور أحمد بن محمد الضبيب عضو مجمع اللغة العربية في القاهرةودمشق وعضو الأكاديمية المغربية والمدير السابق لجامعة الملك سعود ورئيس تحرير مجلة العرب. وخلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب الاجتماع أكد الأمير خالد الفيصل رئيس مؤسسة الفكر العربي على أن إنقاذ اللغة العربية يمثل القضية المحورية التي ينبغي أن يركز عليها المشروع الثقافي العربي خلال العقدين القادمين. والجميل في هذا اللقاء، الذي يعقد تحت مظلة الجامعة العربية وتطبيقا لتوصيات قممها السابقة خاصة قمة سرت بليبيا ، هو الإحساس الذي بدأ يتعاظم في صفوف أصحاب القرار السياسي والثقافي بالوضعية الكارثية التي غدت تعيشها العربية في وطنها مما حذا إلى إنشاء لجنة لإنقاذها. وكما جاء في التقرير الصادر عن اللجنة فقد تدارست (الأسباب والدوافع الكامنة وراء دخول مفردات عديدة إلى اللغة العربية تعمل على تشويهها، إضافة إلى تراجع مستوى القراءة بين الأجيال الصادعة ما حدا بهذه الأجيال للجوء إلى تدجين لغتها بمصطلحات غربية وغريبة). أي أن عملية إنقاذ العربية تتم من خلال مستويين : مستوى تراجعها في مواجهة زحف اللغات الأجنبية خاصة الفرنسية والإنجليزية، و مستوى قصورها في مواجهة حركة التقدم التقني التي تتطلب أشكالاً من التطوير والتحديث. لكن يبقى السؤال الذي ينبغي طرحه على أعضاء اللجنة والمتابعين لأعمالها : هل تستطيع هذه المشاورات أن تنقذ فعليا العربية ؟ نحن لا نشك في مصداقية الأساتذة الباحثين من أعضاء اللجنة ولا في كفاءاتهم العلمية خاصة حين تكون برئاسة أحد أعلام الدرس اللغوي في العالم العربي مثل الدكتور أحمد بن محمد الضبيب، كما أننا نؤكد على أن البحث الأكاديمي والعلمي ضروري لكل تطوير للعربية بغية استيعاب لمستجدات العصر وتوطين المعرفة في العالم العربي ونقل مجتمعاته إلى مصاف الدول الراقية . لكن الأمر ليس بهذه البساطة وإلا فما قدمته المجامع اللغوية من دمشق إلى القاهرة إلى عمان ... مرورا بمعاهد التعريب والترجمة ومؤسسات البحث العلمي هو أكبر من أن يحصى وأرحب من أن يحصر . وبالرغم من ذلك يظل زحف اللغات الأجنبية قويا والتهديد قائما. فما السبيل إلى النهوض ؟ يخطئ من يتصور أن إنقاذ العربية يمكن أن يتم بعيدا عن واقع الأمة . فما قامت لأمة لغتها وهي ترزح تحت الهوان . لكن في نفس الوقت إن اليقين بأن مدخل المعرفة الحقيقي هو اللغة الوطنية التي تشكل هوية العربية من شرق الوطن العربي إلى غربه يفرض تقديم توصيف حقيقي للأخطار المحدقة . فالخطر ليس علميا فحسب وليس هجوما تقنيا جارفا فقط ولكنه خطر اتخذ لنفسه مسارين اثنين : مسار الإرادة السياسية التي ترفض أو في أحسن الأحوال تتهاون في جعل العربية لغة الدولة وتستعيض عنها بلغات دخيلة ، ومسار المواجهة التي غدت بعض الأصوات تعلنها جهارا ضد العربية وكل ما يمت إلى الانتماء العربي تارة باسم الخصوصية المحلية وأخرى باسم الحداثة والواقعية . إذن ، فإنقاذ العربية لا يتم إلا بالخروج من شعارات اللقاءات والتوصيات المدبحة التي تخلص إليها المنتديات المختلفة والبحث عن سبل التفعيل ومواجهة الأخطار. وهذا لن يتحقق بدون التوفر على القدرة على فرض التعامل بالعربية في مختلف الأقطار.أي من خلال توافق سياسي حقيقي بين الزعامات العربية . إن السبيل الحقيقي لإعادة العربية إلى ريادتها المعهودة هو جعل الدفاع عنها وتداولها والتمسك بها حالة شعبية وأهلية. ففي زمن غدا المجتمع المدني ومؤسساته الأهلية هي القادرة على توجيه الحياة العامة وفرض تصوراتها على الحكام ، بعد استقالة الدولة من تدبير العديد من الميادين ، ينبغي على المدافعين عن العربية والمؤمنين بارتباطها اللزومي بوجود الأمة أن ينقلوا النقاش من مستوى نخبوي أكاديمي إلى مستوى شعبي مدني تشارك فيه كل أطياف الشعب العربي . ألم يقل رئيس اللجنة الدكتور الضبيب في إحدى مشاركاته العلمية : (إن اللغات الحية هي التي استطاعت أن تكون ذات قيمة تبادلية عالية في سوق اللغات وإذا نظرنا إلى الفصحى من هذا المنظور فسنجد أن قيمتها الاستعمالية قد انخفضت في كثير من المواقع وهو ما يهدد اختفاءها من مواقع كانت لها فيها السيادة الكامل)؟. وتداولها في كل مناحي الحياة العربية رهين بإشراك كل مكونات المجتمع في حمايتها والتواصل بها وعدم الاكتفاء بالنقاش العلمي النخبوي. فالاهتمام بتدريس اللغة العربية في المدارس والجامعات و بتكوين مدرسي اللغة تكوينا منهجيا علميا قويا ومراقبة الإعلام والإشهار والنهوض بالترجمة والتعريب ووو... كلها حلول يمكن أن تخلص إليها أشغال لجنة إنقاذ اللغة العربية كما خلصت إليها ندوات ومؤتمرات عقدت منذ سنوات في شرق الوطن وغربه . لكن تبقى مجرد أفكار وتوصيات بعيدة عن الأجرأة . إن الذين يحاولون الانتقاص من اللغة العربية يرمون إلى أهداف تتجاوز اللغة إلى الأفراد والكلمات إلى مصير الأمة ووجودها. لذا فالفعل الحقيقي لعملية الإنقاذ يبدأ من إشراك الأمة.