أدت التفجيرات الأخيرة بكل من النجف وكربلاء وما خلفته من قتلى وجرحى ثم الاتهام الإيراني الرسمي بضلوع الموساد والولاياتالمتحدة فيها إلى توقع مرحلة صعبة تجعل من الانتخابات القادمة بوابة لتجزئة العراق وتعميق الاحتراب الداخلي، وذلك في الوقت الذي أعلن فيه الرئيس الامريكي جورج بوش عن كون الأمن العراقي غير قادر على ضبط الأمن في العراق وذلك في معرض بسط توجهاته في السياسة الخارجية ذات العلاقة بالمنطقة. الحيثية السابقة تجعل من خطوة تنظيم الانتخابات العراقية خطوة مثل سابقتها من الخطوات التي تمت من نقل السلطة في 30 يونيو الماضي وتكوين الحكومة الحالية، أو اعتماد قانون إدارة الدولة والتي أعطت مؤشرا عن تنازل أمريكي عن جزء من السلطة وإدماج للامم المتحدة في العملية السياسية وفرض تعايش دولي مع وضعية الاحتلال الأمريكي للعراق، نعم هناك اختلاف من حيث الشكل إزاء الخطوات الآنفة الذكر لكن من حيث المضمون والمقاصد الاستراتيجية نجد نفس الرهانات والتوجهات، ذلك أن الإقدام على تنظيم انتخابات تزعم التوجه لإشراك عموم العراقيين يقابله مسعى أمريكي للتحلل من المسؤولية المباشرة وتوريط الطرف الأوربي عبر واجهتي الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي . وما يزيد المشكلة استفحالا بحدة هو حصول تفجير جديد في كربلاء وانفجار قذيفتي هاون سقطتا في مسجد ابن تيمية ببغداد أول أمس الإثنين، ثم انفجار عبوة في كربلاء، وبلوغ حصيلة تفجيري النجف وكربلاء في نهاية الأسبوع الماضي 66 قتيل وحوالي مئتي جريح، مما يحمل إرهاصات موجة تفجيرات بخلفية إحداث فتنة طائفية. وهم الديموقراطية العراقية وإن تحليل تطورات الاسبوع الأول من الحملة الانتخابية من حيث نوعية الأطراف المشاركة في هذه العملية، وما تنبئ عنه من تحول هذه الحملة إلى أداة لتعميق الشرخ الطائفي والعرقي، أو من حيث تعاطي الإدارة الأمريكية مع التحدي الأمني والسياسي والاقتصادي في العراق، يكشف أن انتخابات 30 يناير القادم ستكون محطة لتدسشين احتلال نظيف بل ومدفوع الأجر على حد تعبير منير شفيق عند تقويمه لاتفاق غزة- أريحا أولا، فشرعنة احتلال العراق وتعميم تجربة أفغانستان تمثل الرهان المركزي لهذه الانتخابات. ماذا تعني الانتخابات العراقية في الرؤية الأمريكية؟ الجواب نجده في خطابين متوازيين، الأول مثلته المقالة الافتتاحية لفريد زكريا في العدد الأخير من أسبوعية نيوزيوك ويضع هذه الانتخابات في سياق الفتح الديوقراطي للعراق، مبشرا بآثارها النوعية على مجمل المنطقة، ومتحدثا عن العهد الديموقراطي القادم بالعراق، ومعتبرا أعمال المقاومة مجرد أعمال هامشية بعد أن تمكنت العمليات التي استهدفت الفلوجة في نونبر الماضي من تقويضها، وهو خطاب نجد تجلياته في المواقف الأمريكية الرسمية بلغت حد تقديم هذه الانتخابات كنمودج للاقتداء من قبل الإيرانيين حيث عبر رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ السناتور الجمهوري ريتشارد لوغار عن ولاية نيفادا لوغار أنه متفائل بأن الديمقراطية العراقية سوف تقدم نموذجا أو على الأقل بداية يحتذي بها الإيرانيون ولا سيما الشباب منهم.، وفي المقابل هناك خطاب عقلاني ينطلق من دروس سنة وثمانية اشهر من إحتلال دموي، ونجده نمودجه في المقالة الأخيرة المعنونة ب العراق: كسب حرب لايمكن كسبه لجيمس دوبينس والذي يشغل منصب مدير مركز سياسات الدفاع والأمن الدولي بمؤسسة راند وسبق له أن شغل وظيفة المبعوث الأمريكي بكوسوفو والبوسنة وهايتي والصومال وأفغانستان،أي أننا إزاء شخصية ذات خبرة ميدانية وتكوين علمي كما صدرت المقالة ب مجلة فورين أفيريز التي يصدرها مجلس العلاقات الخاريجية بنيويورك في عددها لشهري يناير وفبراير القادمين، وهي المؤسسة التي تعد من كبريات المؤسسات الأمريكية ذات الموقع الوزان في استشراف وتوجيه السياسة الخارجية الأمريكية، أي ان المقال من حيث شخصية كاتبه وموقعه ومن حيث الجهة المصدرة له ذا مصداقية مقدرة لفهم أبعاد الانتخابات القادمة، كما يكشف عن الوجه الآخر في الخطاب الأمريكي، خلاصة هذا المقال دالة ، فإدارة بوش بفقدانها ثقة الشعب العراقي، خسرت الحرب في العراق، وأن العراقيين المعتدلين بإمكانهم الفوز لكن فقط في حالة فطامهم عن واشنطن وحيازة الدعم لهم من مكان آخر، ولدعمهم على الولاياتالمتحدة ان تسحب قواتها من العراق دون أن تعرض الانتخابات للخطر وتدجرب العراق على هزم المتمردين بأنفسهم وتحشد كل من إيران وأوروبا في المسألة، والمقالة في تفاصيلها تقدم معطيات غنية عن الأخطاء المتلاحقة للإدارة الأمريكية بالعراق، وعلى فرض إجراء الانتخابات يعتبر دوبينس أن الحكومة القادمة بعد الانتخابات ستكون بشرعية متواضعة، مع تمثيلية كافية للشيعة والأكراد دون السنة، كما أن انتخابات في مجتمع مثل العراق وفي حالة عدم مشاركة السنة في التصويت فإن تمثيليتهم لن تتجاوز بعض الأفراد دون أن يعني ذلك تمثيلية لهم، وسيكون ذلك بمثابة تعميق للشرخ بين السنة من جهة والسنة والأكراد من جهة أخرى. ويختم مقالته بأن تخليص أمريكا من النزاع المكلف بالعراق وإنهاء التمرد والمغاردة بعد إرساء نظام ذي تمثليلة قادر على تأمين الأرض وحماية السكان لا يمكن أن يتحقق بدون دعم الشعب العراقي وتعاون الجيران وهذا يتطلب أن تعيد أمريكا صياغة أهدافها من جديد في العراق بما يمكن من اندماج شعوب وحكومات المنطقة في تلك الأهداف، ورغم أن هذه الرؤية الأمريكة لم تتطور لحد استيعاب طبيعة المقاومة القائمة بالعراق وحصرها في مجرد تمرد، مما يؤثر على دقة استشرافها للوضع، إلا أن السؤال هو هل تسير الولاياتالمتحدة في هذا المسار؟ أم أن أنها الخطاب الأول هو المعبر عن رهانتها في هذه المرحلة؟ عناد أمريكي و اتهام إيراني للولايات المتحدة والموساد لا نعتقد أن الجواب على السؤال الاول هو بالإيجاب، فالمؤشرات الموجودة وآخرها تصريحات بوش في ندوته السابعة عشرة منذ احتلاله لمنصب الرئاسة سارت في اتجاه مغاير، ففي هذه الندوة مثلا نجد رفضا بالإقرار بالهزيمة وغشادة بوزير الدفاع دونالد رامسفيلد كما نلحظ عنادا صلبا يفضح واقع الاحتلال الأمريكي للعراق ويكشف عن النية في إدامته بعد الانتخابات، حيث استهدف بوش كلا من سوريا وإيران في الندوة، مع إقراره ب عدم قدرة القوات العراقية على ادارة الوضع الأمني اليوم وب تأثير التفجيرات في مواقف الأميركيين من التغيير في العراق ، بل نجده في الندوة يكشف عن إرهاصات تعميم ما جرى بالفلوجة والنجف من خلال حديثه عن استراتيجية أمنية منبثقة عن تجربتي الفلوجة والنجف وغير محددة زمنياً يتم على ضوئها تدريب القوات العراقية. في مقابل ذلك تطور الموقف الإيراني نحو إعلان المرشد الاعلى للجمهورية الاسلامية في ايران آية الله علي خامنئي بأن الاستخبارات الاسرائيلية والاميركية تقف وراء التفجيرات حيث صرح بأنه على يقين من أن أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية والاميركية تقف خلف هذه الاحداث، رغم أنه ربط بينها وبين احتمال وجود نية إفشال الانتخابات القادمة. وفي المقابل نجد كل من هيئة علماء المسلمين والحزب الإسلامي العراقي قد استنكرا التفجيرات. اللافت في تلك المواقف هو تركيز المسؤولية على الطرف الأمريكي مما يدل على أن الوضع الميداني يتطور في مسارات مفتوحة على احتمالات متعددة وخطيرة لا تدل بالضرروة على توقع حصول تطور ديموقراطي بل يمكن القول أن هذه الانتخابات هي في حد ذاتها أصبحت أداة لخدمة مشروع التجزئة وتسريع مسلسل الفتنة الطائفية، بما يجعل من بقاء الاحتلال مطلبا كما يتيح إدماج الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي في تدبير مشكلات هذا الاحتلال. مصطفى الخلفي