أثيرت في وسائل الإعلام المحلية والدولية ضجة وطرحت عدة تساؤلات، وذلك بمناسبة طرد حكومة المغرب لعدد من المنصرين الأجانب الذين استهدفوا أطفالا قاصرين يتامى وفقراء في مناطق فقيرة ومهمشة في جبال الأطلس المتوسط، ونحاول في هذه العجالة التي وإن كانت في ظاهرها تخص المغرب، لكنها في الحقيقة تنطبق على بلدان أخرى وخاصة المسلمة منها. لقد جاءت الديانات التوحيدية لهداية الناس، ولذلك أرسل الله عز وجل الرسل وسميت دعوتهم بشارة، كما أن الأصل اللغوي لكلمة الإنجيل تعني البشارة فسميت الدعوة له تبشيرا، لكنه تحول إلى تنصير، بمحاولة إكراه الغير على التنصر، وهذا التحول يعود لعدة عوامل أهمها: 1 - تأخر تدوين الإنجيل وتعدد الأناجيل مما يطرح التساؤل أيها أصح وأجدر بالاتباع؟ فضلا عن تنازع أتباعها واتهام بعضهم لبعض، خاصة الإنجيليين الذين يدعون امتلاك الحقيقة. -2 استعمال التنصير كوسيلة للاستغلال والاستعمار، كما وقع في الحروب الصليبية وفي الاستعمار الأوروبي الحديث للشعوب، وإشعال الحروب الطائفية في أفريقيا وآسيا لحد الآن. 3 - استثمار الكوارث للتنصير، كاستغلال كارثة تسونامي في إندونيسيا، وزلزال الحسيمة في شمال المغرب، وحرب العراق، وزلزال هايتي، والحرب في حدود السودان وتشاد، حيث فاحت فضيحة جمعية أرشي دو زوي الفرنسية، التي تحايلت على أسر أطفال القبائل قصد تبنيهم وتنصيرهم في فرنسا، وحظيت بحماية وتغطية الرئيس الفرنسي ساركوزي شخصيا. 4 - التدليس على البسطاء واستغلال ظروفهم من أجل تنصيرهم: كحاجة الشباب إلى تأشيرات الهجرة إلى الغرب، أو حاجتهم للعمل... ومن أبشع الأمثلة استغلال اليتم والفقر والطفولة البريئة كما وقع في عدة مناطق وحالات آخرها ما وقع في قرية عين اللوح بمنطقة إيفران (وسط المغرب). هذه العوامل وغيرها، نزعت قيم الروحانية والنبل والقداسة والمصداقية عن التبشير وحولته إلى تنصير وإكراه، يستغل الظروف الصعبة للفقراء والمهمشين والأطفال القاصرين، ولا يعتمد الحوار والإقناع. وإلا لأولى الأهمية للمثقفين والمفكرين، والفئات الضالة، وغير المتدينين في البلدان الغربية، حيث نسبة التدين بين 14 و50% وفي فرنسا 25%. التنصير والتسامح الإسلامي وقد يطرح سؤال حول مدى تسامح الإسلام مع أبنائه في اعتناق دينات أخرى في إطار لافتة الحرية الدينية، لكن الجواب عليه يقتضي التأكيد على أن الإسلام كدين سماوي محفوظ تضمن كل العقائد والأخلاق والمعاملات التي جاءت بها الديانات والكتب التوحيدية، وأضاف إليها محاسن أخرى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، ولذلك يعتبر الإيمان الإجمالي بالأنبياء والرسالات التوحيدية ضروريا لصحة عقيدة المسلمين، كما أمر الإسلام أتباعه بالجدال والحوار بالحسنى مع أهل الكتاب والتعايش معهم، كل ذلك يجعل التنصير في بلاد المسلمين من قبيل العبث، لأنه بمثابة الحرث في الأرض المحروثة أصلا. ولذا يجب على أتباع الديانتين التعايش والتحاور حول آليات هذا التعايش، وربما التعاون لإبلاغ كلمة التوحيد بأساليب حضارية واضحة ولا لبس فيها ولا تحايل أو تدليس، إلى الشعوب التي لا تعرفه والفئات الملحدة وغير المتدينة في الغرب وغيره. وبعيدا عن أي تهويل أو تهوين، فإن النشاط التنصيري يعتبر خطرا على المجتمعات المسلمة، لأنه يستهدف الفئات الهشة اجتماعيا وثقافيا، كمما أنه يروم زعزعة الأمن الروحي للشعوب المسلمة التي لا تحتاج من يعلمها تعاليم المسيح عليه السلام، لأن تعاليمه النبيلة متضمنة في القرآن الكريم، كما أنه يمس الاستقرار السياسي للبلدان باعتبار أن الإنجيليين يستهدفون تعيير الخريطة الدينية للعالم، واستنبات أقليات مسيحية في مختلف البلدان وعلى رأسها البلدان المسلمة ثم ابتزاها بواسطة المنظمات والتقارير الحقوقية - مثل تقرير الحريات الدينية الأمريكي-. وباعتبار الدين في البلدان المسلمة جزء من النظام العام فضلا عن كونه دين وشريعة المجتمع، والمس بالنظام العام في جميع البلدان ممنوع ومجرم، نجد أن رئيس فرنسا السابق اعتبر غطاء الرأس مهددا لمبادئ العلمانية والجمهورية. وباعتبار التحالف الصهيوني الإنجيلي المؤسس على أساطير وخرافات تربط ظهور المسيح عليه السلام بقيام إسرائيل الكبرى وإبادة الأعداء في المنطقة الذين هم العرب والمسلمون. فالأمر يحتم على كل المثقفين والنخبة والحقوقيين التصدي لهذا الفكر الخرافي، الذي يهدد استقرار العالم بدل الانشغال بالخطر الإسلامي. بين التنصير والدعوة وكثيرا ما يطرح تساؤل آخر حول تناقض المسلمين في رفضهم للتنصير في بلدانهم، وقيامهم بالدعوة ونشر الإسلام في البلدان غير الإسلامية؟ والحقيقة أن معظم البلدان الإسلامية لا تخصص موارد وبرامج للدعوة الإسلامية أو أسلمة العالم، وإذا أخذنا المغرب كنموذج، فإنه لا يسخر أي موارد بشرية أو مادية لأسلمة الغير، فالجالية المغربية في الخارج تناهز ثلاثة ملايين نسمة وكل ما تقوم به الدولة تجاههم هو مجهود متواضع جدا لتعليم وإرشاد هذه الجالية في بعض المناسبات، ولا يساوي هذا المجهود نسبة ضئيلة مما تقوم به مؤسسات التعليم الفرنسي في المغرب مثلا، كما أنه لا توجد منظمات مدنية مغربية ولا عربية ولا إسلامية مكرسة لأسلمة البلدان الغربية، وما تقوم به جمعيات الجاليات المسلمة ومساجدها لا يتجاوز التثقيف الديني واللغوي لأبناء هذه الجاليات وبإمكانيات ذاتية متواضعة جدا. أما الغربيون الذين يعتنقون الإسلام فهم من صفوة المجتمعات الغربية ونخبتها ورموزها في مختلف المجالات: كالمفكرين والفلاسفة والفنانين والمثقفين وغيرهم... والأمثلة على ذلك كثيرة كالمفكر الفرنسي روجيه كارودي، والمفكر الألماني الدكتور مراد هوفمان، والفنان الإنجليزي يوسف إسلام (كات ستيفن)، والبطل الرياضي الأمريكي محمد علي كلاي... والقائمة طويلة لأناس بحثوا في الديانات وقارنوا بينها فقادتهم قوة ومنطقية العقيدة الإسلامية لاعتناقها دون إكراه أو تحايل أو ترغيب أو ترهيب أو استغلال لظروف صعبة يعانون منها. وأغلب الناس ممن يسلمون من الأوروبيين والأمريكيين هم أناس عقلاء ناضجون ومثقفون وباحثون عن الحقيقة وملء الفراغ الديني والروحي الذي تتشوف إليه عقولهم وقلوبهم، وغالبا ما يكونون هم الباحثين أصلا وقد يلتقون عرضا مسلما أو داعية أو مربيا، أو يزورون مسجدا أو مركزا إسلاميا من أجل استكمال بحثهم الذاتي في مجال التدين. فإذا قلبنا وجه العملة وجدنا دون هذه الصورة الرائقة صورا بشعة،أشرنا إليها سابقا من استغلال ظروف البسطاء والأميين والأطفال القاصرين من أجل تنصيرهم، فهل يمكن لعاقل أن يساوي بين الوجهين؟ وإذا أضفنا إلى ذلك الإمكانيات المالية المخصصة للتنصير والتي تفوق ميزانيات عدة دول عربية مجتمعة، وحماية دول ومنظمات حقوقية تحت عنوان حرية الاعتقاد، أدركنا الفارق الكبير بين الدعوة الإسلامية، وهي في مجملها فردية وتلقائية تفتقر إلى أبسط الإمكانيات المادية والبشرية، وبين الإمكانيات الهائلة التي تضعها المؤسسات الكنسية بين يدي المنصرين. وصفات اقتراحية إن كل ما ذكرناه سابقا وما لم نتمكن من ذكره، يحتم على البلدان المسلمة المستهدفة بناء استراتيجية متكاملة وخطة عمل مندمجة ثقافية واقتصادية واجتماعية وربما سياسية كذلك، لصد هذا السرطان قبل استفحاله، وأول ما ينبغي عمله توحيد الرؤى والتصورات والتحركات في هذا المجال الحساس، فنحن لا نهون من شأن التنصير ولا نهوله، رغم أن النتائج المترتبة عن التنصير في بلاد المسلمين أقل بكثير من الإمكانيات المخصصة له، ويغلب على ظني أن هناك جهات متعددة تتكسب من التنصير، مستغلة في ذلك هوس الكنائس الإنجيلية وتعطشها الشديد إلى تنصير العالم ومنه البلدان الإسلامية على الخصوص. ومن أجل مواجهة هذا المد التنصيري الزاحف على البلدان المسلمة، نقترح على سبيل المثال إقامة مدارس للتعليم ومدارس قرآنية ودور لرعاية الأيتام والتلاميذ المعوزين في المناطق المهمشة، سواء كانت مستهدفة أو غير مستهدفة من قبل المنصرين، والاستعانة بجهود المحسنين ومنظمات المجتمع المدني والجمعيات الإسلامية الدعوية والتربوية المختصة. فقد كانت مناطق الأطلس المتوسط في المغرب مثلا قبلة مفضلة للمنصرين قبل وأثناء وبعد الاستعمار الفرنسي، دوافعهم في ذلك البعد النسبي للمنطقة عن المركز، واستغلال نطق السكان بلسان تمزيغت مع جهل الكثيرين منهم باللسان العربي، وعوز سكان المنطقة بسبب ضعف البرامج التنموية للدولة بها، وأخيرا استثمار أجواء الانفتاح والحرية التي يعرفها المغرب للانطلاق منه كبؤرة للاكتساح التنصيري لباقي مناطق المغرب العربي الكبير. وإذا كنا لا نهول ولا نتخوف من حملات التنصير في المغرب، نظرا لحصانة الشعب المغربي وتدينه، فإننا في الوقت نفسه ندعو إلى عدم التهوين من هذا السرطان الإنجيلي المهووس الذي يحلم بتنصير ثلاثة ملايين مغربي في أفق سنة ,2020 وخصوصا بعد دخول دول وسفارات أجنبية مثل الولاياتالمتحدة وهولندا على الخط، وانخراط منظمات حقوقية في الدفاع عن التنصير والمنصرين، وغياب جان لوك بلان من الكنيسة الإصلاحية الفرنسية في الدارالبيضاء عن لقاء وزير الداخلية مع ممثلي الكنائس والديانات في المغرب، ثم استنكاره لمطاردة الشرطة للمنصرين في مراكش بعد ذلك... كل ذلك وغيره من المؤشرات يؤكد أن التنصير في المغرب دخل مرحلة جديدة تتميز بالتدويل والتدخل السافر، الذي ينبغي التصدي لها بحزم قبل استفحالها باستنبات أقلية نصرانية مغربية بمختلف الوسائل وإكراه المغرب على الاعتراف بها والتعامل معها كأمر واقع لا يمكن تجاهله، وهو ما نبهت له عديد من الجهات قبل سنوات في غفلة من الحكومات المتعاقبة الني كانت تتغاضى عن الموضوع وتهون منه رغم توفرها على معطيات الموضوع وأرقامه ومعرفتها بخطورته، مما يدفع إلى طرح تساؤل مشروع عن مدى وجود جهات متواطئة أو مستفيدة كما يحدث دائما وفي كل القضايا؟! أستاذ العلوم السياسية والدراسات الإسلامية بالرباط