كثيرة هي المفاهيم الإسلامية التي تقلصت دائرتها إلى أصغر دائرة ممكنة مع أنها في أصلها أوسع وأفسح، ومن ذلك مفهوم العبادة، إذ تنصرف في الغالب إلى الشعائر مع أنها شاملة لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال والأحوال... ومن ذلك مفهوم الصدقة، وقد أصاب الخلل معانيها من أكثر من جهة، إذ صارت تنصرف غالبا إلى التطوع بالجزء اليسير من المال أو نحوه، والصدقة ارتبطت أيضا بالقلة، فهي غالبا ترمز إلى الشيء البسيط اليسير الذي لا يكاد يصلح لشيء، وهي أيضا لا تكاد تذكر إلى جهة المحتاجين للمعونة المالية، والأمر أوسع من كل ما سبق!! الصدقات أوسع وأرحب وأفسح، وذلك كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن ظن من فقراء المسلمين أن ليس له ما يتصدق به كما في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ فأول ما صححه رسول الله صلى الله عليه وسلم للسائلين أن فتح أمامهم أبوبا للصدقة هي في مقدورهم لكنهم لم ينبتهوا إليها. وفي أحاديث أخرى عدد صلى الله عليه وسلم أبوابا للصدقات كما في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: على كل مسلم صدقة قيل: أرأيت إن لم يجد؟ قال: يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق، قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قال: قيل له: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف أو الخير قال: أرأيت ؟ إن لم يفعل قال: يمسك عن الشر فإنها صدقة. وفي رواية عن أبي ذر: قال صلى الله عليه وسلم: تعين صانعا أو تصنع لأخرق قال: قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك}. ومن الصدقات الجديدة التي لم تكن معروفة من قبل التصدق بالدم. فالدم الذي يجود به العبد في سبيل الله فينال به شرف الشهادة قد جعل الله وجها آخر أيسر للتقرب به إليه وهو التصدق بجزء منه، ومن الآيات التي التصقت بالتصدق بالدم قوله تعالى: وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً (المائدة : 32) وهو استدلال جيد يرجع بنا إلى الآيات بمعناها الكلي المستوعب لكثير من المعاني عوض الاتجاه الجزيئي الذي فوت على الناس حسن الانتفاع بالقرآن الكريم. وما أحوج الأمة إلى استثمار كتاب ربها في كل حاجاتها وقد قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (الإسراء : 9) ومن الآيات التي يمكن الاستدلال بها في هذا المعنى أيضا قوله تعالى: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ، وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (آل عمران : 92) ومن رحمة الله أن جعل دمنا يتجدد في مدة حددها الأطباء في ساعات، وهذا مما يدخل في عموم قوله تعالى: وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (سبأ : 39) بل يجوز أن نطلق ذات المعنى الذي ورد في الحديث ما نقص مال من صدقة بأن نقول ما نقص دم من صدقة؟ والتصدق بالدم يمتد لغير المسلم أيضا، وهو من البر الذي أمرنا الله به كما في قوله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (الممتحنة : 8) أحسب أننا في حاجة ماسة إلى إشاعة ثقافة التبرع بالدم أو ما أسميته بالتصدق به، وهي مناسبة للتنويه بكل الجهود التي تبذلها بعض الجمعيات والهيئات، والأمر يتسع لجهود آخرين، والحاجة إليه ماسة والمتصدق أول المنتفعين: مَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُون بصير ( البقرة 110)