نشرت يومية الصباح أول أمس الأربعاء خبرا عن حدث طريف كاد يودي بالحياة الفنية للممثل بنعيسى الجراري؛ بل وبعقله أيضا، ويرمي به إلى الشارع بين الحمقى المتسكعين في أزقة المدينة. فالفنان بنعيسى الجراري الذي يستعد للقيام بدور معتوه في فيلم سينمائي تسلل إلى مستشفى الأمراض العقلية حتى يعيش أجواء المرضى عقليا وينعش ذاكرته الانفعالية استعدادا لتقمص أحسن للشخصية.
ولكن صادف أن مريضا كان قد هرب من المستشفى قبيل ذلك فظن الحرس أنه بنعيسى الجراري فأمسكوا به وأدخلوه رغم صراخه وتأكيده أنه فنان معروف؛ ولكن لا أحد كان يعرفه منهم. وربما هموا بحقنه حقنة مهدئة قبل أن تتدخل إحدى الممرضات لتؤكد أنها تعرفه وأنه فعلا فنان معروف.
صحيح أن الفنان الجراري قد أخطأ بعدم المرور عبر الإدارة. مع أن الله تعالى يقول وادخلوا البيوت من أبوابها. ولكن هذه الحادثة ذكرتني بحادثة مماثلة وقعت لفنان آخر وأودت بعقله نهائيا. هذا الفنان هو محمد الوليدي الذي كان أحد عباقرة الكوميديا في الستينيات من القرن الماضي. لقد كان الوليدي موهوبا لدرجة أنه يكفي أن يقف أو يقوم بأي حركة أو ينبس ببنت شفة حتى ينفجر الحضور من الضحك، وهذا ما لا يزال يتذكره عشاق المسرح في الستينيات وخصوصا جمهور فرقة المعمورة الذين شاهدوه سواء في حليب الضياف لأحمد الطيب لعلج، أو في الشرع اعطانا اربعة لمحمد أحمد البصري.
كان الوليدي ناجحا ومطلوبا جدا في ذلك الوقت لدرجة أن أصيب بإرهاق ذهني من كثرة العملsurmenage في الوقت الذي طلبه أحد المسرحيين المغاربة للقيام بدور خادم في مسرحية كوميدية. وعندما اعتذر الوليدي بأنه مرهق توسط له هذا المسرحي بحكم معرفته بالعديد من المسؤولين. وأدخله مصحة نفسية يقضي بها بعض الوقت للراحة والتأمل في انتظارالبدإ في التداريب.
بعد أيام أمضاها الوليدي في المصحة وسط العشب الأخضر والحديقة الغناء. قرر أن يتدرب قليلا على دوره حتى يلتحق بزملائه بعد أيام وهو على استعداد لمسايرتهم في التداريب.
وهو يتدرب في مسالك الحديقة شاهده طبيب نفسي لنسمه كولومبو فأمر بإحضاره، وقال له، ماذا كنت تفعل؟ أجاب الوليدي الذي ظن أن الطبيب قد تعرف عليه:
-أتدرب على دور أستعد لأؤديه في مسرحية
- ما اسم هذا الدور؟
- عنتر وبالفعل كان اسم الخادم في المسرحية عنتر الذي يرى في المسرحية أنه في حاجة إلى عبلة فيتخيل عبلة لتصبح عبلة شخصية متخيَّلة خلال المسرحية. ولكن الطبيب سأل الوليدي:
- أنت عنتر، فأين هي عبلة؟
- عبلة أتخيلها في المسرحية.
هنا أشار الطبيب بأخذ الوليدي الذي ظنه مريضا إلى الجناح الخاص بالحمقى تماما.
صرخ الوليدي كما صرخ الجراري أنا ممثل ولست مجنونا،أتركوني. لم يكن حظ الوليدي كحظ الجراري؛ إذ لم يتعرف عليه أحد في محاولاته الافتكاك من قبضتهم. ونظرا لتمنعه حقنوه بحقنة مهدئة. وألقوا به في جناح المعتوهين ليفيق بعد يوم أو يومين وسط هذا المنظر المهول صرخ مرات أخرى فحقنوه ثانية. وبعد أيام أخرجوه إلى الشارع وهو لا يدري ماذا حدث له. بل كان قد فقد عقله وجن بالفعل. أصبح الفنان القدير محمد الوليدي يتسكع في طرقات الرباط ومراكش مدينته الأم إلى أن مات واقفا بإحدى مقابر هذه المدينة.
حادثة الوليدي وحادثة الجراري الذي لولا مصادفة وجود من تعرف عليه في تلك اللحظة بالمستشفى لكان مصيره مثل مصير زميله، تدفعنا إلى إثارة موضوع ما يسمى بالطب النفسي عندنا. خصوصا والروايات تترى عن مراكز الاستشفاء النفسي والعقلي بالمغرب، لدرجة أن أحد المستشارين بالبرلمان وصف أحد هذه المراكز بأنه أسوء من سجن أبو غريب.