حينما تعرفت على شعر الملحون قبل 18 سنة ببلد الأصل الرشيدية حيث تمتزج تربة الإقليم بذرات الملحون وجدت أغلب القصائد المؤداة غناء تعيش وتتعيش في غمار العشاقي أو فن الغزل من بعض قصائد الحراز وغيرها منها العفيف وغيره... وحين بدأت البحث وجدت أن المفارقة في هذا الشعر الجميل هي أنه قد أنشأه العباد والزهاد والمتصوفة والفقهاء فتساءلت ماذا حدث في مسيرة هذا الأدب المغربي الرفيع؟ كيف وقع الصمت المريب عن العدد الهائل من القصائد الرائعة؟ ولماذا وقع إبراز قصائد بعينها هي التي تغنى عادة ويلتفت إليها في المناسبات المختلفة؟ ولماذا لا يقع التجديد اللازم في إبداع الفرق المختلفة؟ وقد دفعني الفضول إلى ولوج هذا العالم من الإبداع المغربي الأصيل، فوجدت خزانا ثرا من المعاني العميقة التي تنطلق من العقيدة الإسلامية السمحاء والجميلة، إلى وصف الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه، إلى التاريخ والعلاقات الاجتماعية.. إلى الجهاد والوطنيات والتحرر والاستقلال... إلى العمارة والبناء والتنمية إلى المطبخ... إلى جمال الطبيعة، إلى الأخلاق، إلى الحديث عن المرأة/الإنسان... إلى غير ذلك من الأغراض الشعرية. وفي كثير من الأحيان يختم الناظم قصيدته بما يفيد بأن ما قاله من صنع الخيال وأنه لم يقارف معصية وإثما بيديه ويستغفر الله ويتوب إليه. واليوم وقد استجدت معارك الهوية الثقافية وطرحت بحدة على المستوى العالمي مشكلات التعصب والتطرف الديني واللاديني وبدأنا نسمع عن صراع أو صدام الحضارات خاصة بعد تفرد القطب الوحيد وما نسمعه حول العولمة الكاسحة من رغبة في تنميط العالم ثقافيا مع غلبة نفس عدم الاعتراف بالاختلاف الثقافي، وظهور دعوات تنادي بضرورة احترام الخصوصية الثقافية لكل الشعوب والأمم، في ظل هذا النقاش المحتدم اليوم يمكننا المجازفة بالقول إن لشعر الملحون قدرة إن نحن حافظنا عليه وأحييناه، وأيقظنا قرائح شعرائه أن يحافظ على الذاكرة الجماعية للمغاربة خاصة وأن شاعر الملحون له قدرة خاصة على تتبع التحولات الاجتماعية للمجتمع المغربي عبر التاريخ... فلا يمكننا النهوض بالاستغناء عن هذه الذاكرة الجماعية، الذاكرة الثقافية... مظاهر الالتزام في شعر الملحون: المجتمع المغربي عبر التاريخ شاعر الملحون استطاع أن يؤرخ لأحداث ربما سكت عنها الأكاديميون أو المؤرخون ومنها قصيدة المصرية التي دبجها يراع محمد بن علي الشريف ولد أرزين، وصف فيها مشاركة المجاهدين المغاربة في تحرير بلدة الغورية من الجيش الفرنسي الذي غزا مصر بقيادة نابليون، وقد كان ذلك أيام الملك الصالح المولى سليمان رحمه الله... وكما لاحظ ذ.محمد الفاسي رحمه الله فإن أحدا من المؤرخين لا في المغرب ولا في المشرق لم يتعرض لهذا الحادث .. وقد ذكر ولد أرزين وقائع هذه الحرب واستبسال المغاربة في إخراج الفرنسيين من الغورية بعد أن قتلوا منهم عددا كبيرا وأسروا عددا آخر دفعوهم إلى جيش الإنجليز الذي كان يساند المصريين(1). بشار المشارق جانا حتى للمغارب وبشر الإسلام بمصر ولات للإسلام لنا ولك الله يا مصر واجب البشارة إلا كيفها بشارة واليوم نحن محتاجون أن يعاود شعراء الملحون المعاصرون الاهتمام بمبحث التاريخ المغربي وبالأحداث الجسام التي مر منها كشعب مغربي وكشعوب عربية وإسلامية ... الالتزام: قضايا وقيم قضايا العقيدة، والتوبة... شعر الملحون مرتبط الجذور بالإسلام عقيدة وشريعة، وهذا واضح في غير ما قصيدة من قصائده بل لا نجازف بالقول إن قلنا إن شاعر الملحون إسلامي المنزع فيما أبدع من آلاف الصور الفنية الرائعة فقد أفاد وأجاد في حديثه عن الله تعالى كما أجاد في مدح الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. يقول سيدي عمر اليوسفي مثلا في قصيدة التوبة: باسم الله مفتاح الكلام سبحانو من لا ينام مول القدرة مول الحكام سبحانو جل جلالو سبحان الباقي بالدوام سبحان العالم بالعلام سبحانو كريم الكرام ما كامل حد كمالو وانتني بصلاة الحبيب بألف صلا وعد تجيب قد الباين واللي يغيب قد النجوم وما مالو صليو على هاذ الحبيب صليو على مول القطيب من كثر في صلاتو يصيب بها يتنور حالو وبعد أبيات جميلة يقول: صليوا على من جانا به كرمنا واعطانا رسلو لنا مولانا جاد علينا بفضايلو أما موضوع التوبة والرجوع إلى الله فهو حاضر في هذا الشعر الجميل نجد عند اليوسفي الفيلالي: فيق أراسي فيق فيق وراك بقيتي في الطريق ما عندك زاد ولا رفيق غير افعالك وعمالو ما درت فعال ولا اعمال لمن نشكي حملي تقال من لا يقرا ولا يسال ضايع في الدنيا حالو ضيعت أوقات الصلا ومشا لي عمري خلا كيف اللي تالف وانجلا لا من يلقاه يسالو أراسي ياراسي خليت ما صليت ولا قريت حتى شبت هلي وعيت وراسك شاب كحالو توب أراسي توب توب يزاك خلاص من د الذنوب ضيعت اشبابك في اللعوب ومشى العمر في حالو في كلام يوقف الإنسان أمام ذاته لمراجعتها ومحاسبتها ، لقد قام شاعر الملحون بالدور التربوي اللازم في مجتمعه بطرح أسئلة الوجود الكبرى وإعادة النظر في مسيرة حياته حتى يصبح لها معنى ،،، ويصبح لجماعته معنى. الدنيا ياراسي تفوت ما يبقاشي من لا يموت وين رفاقك وين لخوت من مشى ما بان خيالو الدنيا ياراسي غرور لا تامنهاش راها تدور من بعد تعطي ترجع قشور مهبول اللي تحلا لو القيم الحاضرة في شعر الملحون: قيمة الإنسان المكرم دافع شاعر الملحون عن العدل إذ به قامت السموات والأرض ويرفض الظلم في قصيدة النحلة: قلت لها السباب طاعة جنودك الملك كافي للكبار والصغار لا حيلة لا غش لا نكر عند الكلام يحققوا كل إشارة ثم يأتي رد النحلة لتأكيد ما قاله محاورها الناظم: قالت ما عندي وزير طماع يداريهل المال لو كانوا كفار وفي أبيات حكمية يسجل المدغري تصوره السياسي لعلاقة السلطان بالرعية على لسان النحلة دائما: السلطان طبيب والراعي مضرور والوزير ليس يبلغ الأخبار ويجيب الشربة لمن انضر ويلا خان الوزير بعدت المزارة ويعلق على قولها: قلت لها الحق والحق عليه النور ما خفى نوره على الأفكار من يمشي في النور ما عثر والماشي في الظلام خيله عثارة فهو هنا يوافق شامة الظريفة فيما قالته ويؤصل له بحكمة والظلام والظلم مشتقان من أصل واحد وبينهما من التشابه الشيء الكثير ويعلق: شوفي يا شامة الظريفة ناس العد أولاد المشرف نسل المختار أهل النسب العالي القدر يتعاطوا للحقوق نعم الصبارة ربي يحجبهم من مكايد كل من هو غشاش كابر على الخدع نكار ساكن وسط حجرة النكر من قوم اقصاف من معادن نكارة إنه يشير بأصبع الاتهام إلى بطانة السلطان ويصفهم بأوصاف أقلها أنهم لا يبلغون للملك أخبار الرعية ولا يقومون بمسؤولياتهم وهنا نلاحظ أن شاعر الملحون ابن شرعي لواقعه يتفاعل معه ويقوم بدوره من النصيحة للسلطان على المستوى السياسي وهو يدافع بقوة عن العدل وحقوق الإنسان المغربي للحظته التاريخية . قيمة الحرية والاستقلال والوطنية قصص الجهاد التي سجلها شاعر الملحون ، جهاد المغاربة عبر التاريخ ضد أعدائهم المتربصين بهم، قصص كثيرة نذكر منها على سبيل الذكر فقط قصيدة الجهاد لمحمد بن لحسن السلاوي الذي يقول عنه ذ.محمد الفاسي رحمه الله صاحب هذه القصيدة غير معروف في أوساط شيوخ الملحون وقد وقفت عليها في كتاب أغاني المغرب العربية لسونيك المطبوع بباريس .1902 وموضوعها هجوم السفن الحربية على مدينتي سلا والرباط يوم الأحد 26 أكتوبر 1851 وحربتها: آبن حسون أفارس العناية سلطان سلا أنت وسيدي بن عاش حاشا والله بلادكم لا دخلوها كفار كما اشتهرت بعض القصائد الملحونة بالتطوانيات لأنها تحكي دخول الإسبان إلى تطوان وفي العصر الحاضر نظموا في الحركة الوطنية المغربية وفي كفاح سيدي محمد بن يوسف رحمه الله وجلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله... وفي حرب التحرير الجزائرية وفي جهاد الفلسطينيين وكذلك القصائد الخاصة بتحرير القدس الشريف). ومن القصائد الهامة في هذا الشأن تلك التي نظمها سيدي هاشم السعداني والمعروفة بدخول وجدة وهي تذكي روح الجهاد ضد الاستعمار الفرنسي الذي احتل وجدة سنة 1907 وحربتها: يا الاسلام ابكيوا على دخول وجدة دون حرب غنمها العدو ونال المراد وروحها متفائلة بالجهاد: رابو لسوار وندخل رصام العز وكسا توب الهوان فيها كل عزيز ..... وقفات الذل سرها عير التحرير كف يرضى بالذل اللي الله عزو بعز دين الاسلام على الاديان معزوز موت العنيا فنهار اللقى وبرز خير من عيشة الذل فكل خير مبروز الثنا لأهل الفضل خبرها يكنز كل من مات على عزه ثناه مبروز ما بقات فعيش الدنيا اليوم لذا عند من دينه ويمانه فقلب الفئاد مصرفين الوقت فعسى اليوم غدا يغيب نجم النحس وينبي هلال لسعاد وهي قصيدة رائعة لأنها تصرح بالمسكوت عنه في خطابات سياسيينا المعاصرين وكذا بعض الدارسين فهي تصرح بالأسباب الذاتية وراء دخول الفرنسيين إلى المغرب، كما بين طبيعة المغرب الإسلامي وأنه حصن الإسلام عبر التاريخ لا يدخله عدو إلا انهزم... ويصف الاستعمار الفرنسي بأنه لم يستحضر التاريخ. ما صغ لتورخ ولا قر فلجفار كل من جا للغرب تغرب صغار جا للمصيدة ولق كف سار للفار ......... درغم الغرب شريف ما تريد كفار من طمع في وطنهم يجيح قرار وأما السبب الذاتي في دخول فرنسا فهو أناس من بني جلدتنا ضعيفي النفوس أرادوا الحظوة عند المستعمر فأطمعوه في بلدنا: غروه وطمعوه يرضع كل ضغاس وجوه كبار بارزين بعقل خسيس ايمان قلوبهم ما رسخت بلساس يوم الحزة كبيرهم تلقاه خنيس فاتوا بافعالهم المطرد يبليس كما يغروا باعمايم بارزين فالراس لورقا والزنار يزول كل تلبيس معاندين في البني ونواع كل تلباس ريهم عليهم يعد نكد بخيس رضاوا بالذل لمبجشنين بين الخناس تابعين الشهوة ونساوا يوم العبيس على مراد النفس يأديوا كل وعدة بايعين ركاب الاسلام صيل الاجحاد فعالهم من الله تزيدهم بعاد سرهم الموت فجف مثيل شداد ادمرهم الكريم خداعين الدين لا خير في مرو ليس يعبا بايمان حكم بعقولهم ونساوا المبين