بقدر ما يشعر الإنسان بالإحباط وهو يتابع الغطرسة الإسرائيلية في فلسطينالمحتلة، وارتباك الإدارة الأميركية في تدبير ما يسمى بملف السلام وسعيها لتفادي غضب إسرائيل ومن ورائها اللوبي الصهيوني في الولاياتالمتحدة، ضاربة عرض الحائط بوعود تحسين العلاقات مع العالم الإسلامي، يظهر شعاع أمل وسط ظلمة الإحباط، ويبعث الأمل ولو كان ضئيلا بأن الصورة ليست قاتمة وسوداء تماما، وأن هناك هامشاً للضوء يمكن أن يتوسع ولو بشكل بطيء، حيث أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز راسموسين الأميركي لقياس الرأي العام مؤخرا، أن %49 من الأميركيين يرون أنه ينبغي على إسرائيل إيقاف بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة عام ,1967 وأن %22 لا يرون ضرورة وقف الاستيطان، فيما يرى %29 ممن استطلع رأيهم أنهم غير متأكدين. وكشف الاستطلاع نفسه تراجع نسبة من يعتبرون أن إسرائيل حليف للولايات المتحدة %58 مقابل %70 في استطلاع سابق في أغسطس الماضي. ولهذا الاستطلاع أهميته، لأنه أجري بعد ما وُصف بالأزمة بين واشنطن وتل أبيب جراء إعلان قرار بناء 1600 وحدة استيطانية في القدسالشرقية بالتزامن مع زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، وبعد الموافقة العربية على مفاوضات غير مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وليس هذا الاستطلاع الأول الذي كشف تراجع تأييد الشعب الأميركي لإسرائيل، بل سبقته استطلاعات للرأي وعلى فترات متباعدة منذ ,2002 وكلها أكد نفس الحقيقة، ورغبة شريحة واسعة من الأميركيين في موقف محايد لدولتهم تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، وتحديداً حول قضية فلسطين. طبعاً مثل هذه الاستطلاعات أزعجت وتزعج إسرائيل والموالين لها، لأنها أشعرتها وتشعرها باستمرار بأنها بدأت تفقد بريقها وتأثيرها في قلوب وعقول الأميركيين، رغم تمكن اللوبي الإسرائيلي من التأثير واستمالة صانعي القرار في أهم الإدارات الأميركية، وبات صعباً على قيادات إسرائيلية أو أميركية -معروفة بدعمها القوي لإسرائيل- دخول كثير من الجامعات الأميركية والدفاع عن مخططات إسرائيل وجرائمها في فلسطين، دون أن تقابل بالاستهجان والاحتجاجات والأسئلة المحرجة. وتعد منظمة +الآيباك؛ التي أسست سنة 1951 وكانت تعرف ب+لجنة العلاقات الأميركية الصهيونية؛ وعدلت اسمها ليصبح +لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية؛، أبرز منظمة داعمة لإسرائيل، استطاعت أن تؤثر في صانعي القرار وتقنع أعضاء الكونغرس أيام الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريجان بالموافقة على مساعدة مالية سنوية لإسرائيل بمبلغ ثلاثة مليارات دولار. وتمكنت المنظمة التي تختتم اليوم مؤتمرها السنوي بعملها الذي لا يمكن وصفه إلا بأنه رهيب، من التأثير باستمرار على السياسيين عبر المال والإعلام، لكنها لم تستطع التأثير في جزء كبير من الشعب الأميركي، بل على العكس من ذلك تسببت فضائحها وتحديدا فضيحة التجسس ضد الولاياتالمتحدة لصالح إسرائيل سنة 2005 التي تورط فيها عضوان بارزان فيها بتراجع مَنْ كان يؤيد إسرائيل، وزاد هذا التراجع بعد الحرب على لبنان سنة 2006 ومذبحة غزة في نهاية 2008 وبداية 2009 وتقرير غولدستون وغيرها من المواقف الإسرائيلية المتغطرسة من سرقة للتاريخ وسعي لهدم الأقصى -لا قدر الله- وتغيير لمعالم القدس. وما سبق أعطى دفعة قوية لتيار داخل الولاياتالمتحدة الأميركية وجعل صوته يرتفع مطالبا بمراعاة مصالح الولاياتالمتحدة الأميركية قبل مصالح إسرائيل التي تعود عليهم بالخسائر. وأعتقد أن أكبر تجلٍّ لهذا الصوت وتفسير له الكتاب الفريد من نوعه، الذي كان في الأصل مقالة هزت اللوبي الصهيوني والمناصرين له، بجرأته في كشف دور اللوبي في صياغة السياسة الأميركية حيال الصراع في الشرق الأوسط وغزو العراق والمواجهات مع إيران وسوريا، وما سماه بالسياسات التي لا تصب في المصلحة القومية الأميركية، واعتبرها مضرة بمصالح إسرائيل نفسها على المدى الطويل. كتاب +اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية؛ لستيفن والت عميد كلية كيني في جامعة هارفرد وجون مير شايمر بروفسور العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، تطرق بالتفاصيل لآليات اشتغال اللوبي الصهيوني وقوته ومجالات تأثيره ومخاطره على المصالح الأميركية إن تمت مسايرته بدون حساب، مستنداً في ذلك لمعطيات وأدلة دامغة، الأمر الذي أسهم في كسر الطوق وتبديد الخوف من مناقشة دور اللوبي المذكور في رسم السياسة الأميركية. الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر هو الآخر كان قد رمى بحجره في البركة الراكدة بكتابه +فلسطين: السلام وليس الفصل العنصري؛، حيث حرك الهجوم الذي تعرض له كارتر وكثير من منتقدي إسرائيل ومن يدعمها كثيراً من الأسئلة داخل الشعب الأميركي، وبدأ النقاش يتوسع في المجتمع الأميركي حول أفق تحكم اللوبي الإسرائيلي في السياسة الأميركية اتجاه العالم العربي والإسلامي، والولاء المزدوج لهذا اللوبي، ومن الأولى المصلحة الأميركية أم المصلحة الإسرائيلية. وأسهم كتاب +اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية؛ كما قال مؤلفاه في فتح حوار عقلاني حول المصالح الأميركية في الشرق الأوسط وتفادي تآكل السمعة الأميركية في ظل صعود قوى جديدة لها وزنها من قبيل الصين، وطرح كيف يجب على الولاياتالمتحدة تقديم مصالحها في المنطقة الحيوية استراتيجيا، وضرورة الانتباه للسياسيات الأميركية اتجاهها، لأن لها حتماً ارتداداتٍ بعيدة المدى. واعتبر صاحبا الكتاب، أن الولاياتالمتحدة باستحضار ما جرى في العراق تتسبب لنفسها ولغيرها في أضرار كبيرة إذا كانت سياساتها مضللة، معتبرين أن وضع إسرائيل كان سيكون أفضل اليوم لو استخدمت الولاياتالمتحدة الأميركية منذ زمن طويل ثقلها المالي والدبلوماسي لإقناعها بوقف بناء المستوطنات، وساعدت على إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة. لكن واشنطن لم تقم بذلك لأن مجرد المحاولة ستكون مكلفة سياسيا لأي رئيس كما يؤكد صاحبا الكتاب المذكور. ونفس الملاحظة سجلها زبيغنيو بريجنسكي ولكن بسياق مختلف في كتابه +الفرصة الثانية: ثلاثة رؤساء وأزمة القوة العظمى الأميركية؛. باختصار، وفي ظرفية دولية لا يحتل فيها فيما يبدو ملف فلسطين أولوية عند الإدارة الأميركية، يبقى الأمل في أمرين؛ الأول أن تراجع عموم الدول العربية والإسلامية مواقفها المتعلقة بما يعرف بملف السلام، وأن تتحمل مسؤوليتها وترفض التطبيع مع الكيان الصهيوني -وذلك أضعف الإيمان- وتسد كل منافذه مسنودة في ذلك برغبة الشعوب، وتساهم في رفع الحصار عن غزة والضغط في هذا الاتجاه. والثاني، أن يتنامى التيار الرافض لهيمنة اللوبي الإسرائيلي على رسم السياسة الخارجية الأميركية تجاه العالم العربي والإسلامي، ويتوسع في اتجاه بروز جيل سياسي أميركي جديد في الأمد المتوسط عصيٍّ على ألاعيب وخطط اللوبي الصهيوني وقادرٍ على تغيير مجرى التاريخ في اتجاه العدل والسلام الحقيقي.