على مشارف يوم واحد من اقتراع الرئاسة الأمريكية، دخل السباق مرحلة غير مسبوقة من التقاطب والتوتر المفتوح على كل الاحتمالات، وسط تحول قضايا العالم الإسلامي إلى محور محدد في نتائج هذه الانتخابات، كما يصعب معها الحسم الواضح لصالح هذا المرشح أوذاك، فمازالت استطلاعات الرأي متذبذبة، وزاد الشريط البصري لأسامة بن لادن من تعميقها، فبوش وجد في الشريط فرصته لتأكيد هاجس الأمن كأولوية في السياسة الأمريكية مادام الخطر قائما، أما كيري فالشريط بالنسبة إليه كان هدية أثبت عددا من مقولاته في فشل بوش في الحرب على الإرهاب وكون سياساته عززت من مخاطر الأمن، وأن استمرار بوش سيكون إيذانا بتزايد هذه المخاطر وتعاظمها. انحياز الصوت الإسلامي لصالح كيري لقد اتجه الصوت الإسلامي داخل الولاياتالمتحدة إلى دعم كيري، كما تتطلع فئات عريضة في العالم الإسلامي إلى خسارة بوش وفوز كيري، ليس لأن الثاني يقدم برنامجا أفضل لصالح القضايا العربية والإسلامية، بل لما يمثله هذا الفوز من تعبير عن فشل خيار أمريكي في مناهضة المصالح العربية والإسلامية لمصلحة الكيان الصهيوني من ناحية، ثم لما سينتج عنه من إبعاد لنخبة من المتحكمين في مفاصل القرار الأمريكي ممن يسمون بالمحافظين الجدد، اتجهت السياسات الامريكية في عهدهم نحو مسارات إيديولوجية ترتكز على الصهيونية المسيحية، وتعمق معها الصدام الحضاري مع العالم الإسلامي، كما اشتدت العزلة الأمريكية وتفاقم النقذ لها في مختلف الدول، فضلا عن ذلك تدهور الحريات المدنية للمسلمين في الولاياتالمتحدة. ما سبق جعل الخيار العام لقطاع عريض من الهيئات الإسلامية في أمريكا ممثلة في 11 مؤسسة تحسم لصالح التصويت على كيري، وتعلن موقفها الصريح يوم 21 أكتوبر الماضي، أي أزيد من عشرة أيام على موعد الاقتراع وتنخرط بحماس في تكثيف الدعاية لصالح هذا الخيار، باعتباره الخيار الواقعي والمؤهل لتعزيز الوضع السياسي للمسلمين في الحياة السياسية الأمريكية، ومدخلا لتمتين دورهم كجماعة ضغط شبه موحدة، قادرة على التأثير في سير الانتخابات. لقد عبر عن ذلك بوضوح إعلان لجنة العمل السياسي عن دعمها لكيري والاعتراض على بوش، ومثلت اللجنة أكبر تحالف سياسي إسلامي في أمريكا يضم كل من مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير) والتحالف المسلم الأمريكي (AMA)، والحلقة الإسلامية لشمال أمريكا (ICNA)، والتجمع الإسلامي لشمال أمريكا (ISNA)، والجمعية الإسلامية الأمريكية (MAS)، ومجلس الشئون العامة الإسلامية (MPAC)، وإتحاد الطلبة المسلمين (MSA-N)، ومشروع الأمل الإسلامي (PIH)، والتحالف المسلم في شمال أمريكا (MANA)، والأمة المسلمة في شمال أمريكا (MUNA)، ومسلمي أمريكا المتحدين (UMA). لم يكن هذا التحالف عاديا بل جاء مشروطا بضرورة تطوير كيري لمواقفه إزاء قضايا المسلمين، رغم تسجيله لجهود التواصل بين حملة كيري والمسلمين الأمريكيين، وذلك من قبل إدوارد كينيدي، وعبرت اللجنة عن ذلك بقولها في البيان لقد انتقدت حملة كيري عدد من سياسات إدارة بوش، ولكنها فشلت حتى الآن في التعبير بوضوح عن مساندتها لعدد من المبادئ الدستورية مثل حق الأفراد في أن تتم محاكمتهم بعدالة ووفقا للسير الطبيعي للعملية القانونية. كما نشعر أيضا بالاستياء لأن حملته لم تقدم تأييدا صريحا لعدد من المبادئ المحفوظة في الدستور الأمريكي والتي تحرم استخدام الأدلة السرية والإجراءات القضائية السرية، مضيفة أنه وعلى الرغم من إدراكنا للخلافات القائمة بيننا وبين السيناتور كيري بخصوص عدد من القضايا الداخلية والدولية بما في ذلك الحرب على العراق فإننا نعتزم العمل معه للمساعدة على إعلاء قيم المساواة أمام العدالة وضمان السير الطبيعي للعملية القانونية وفقا للدستور الأمريكي، لقد كانت عملية الترجيح في صفوف الهيآت الإسلامية عملية معقدة وصعبة تفرض المغامرة، وتحتم اتخاذ قرار واضح يصون مكتسبات الانتخابات السابقة والتي سجلت تبلور الفاعل السياسي المسلم في العملية الانتخابية، كما ينقل الوجود السياسي المسلم لمرحلة جديدة، في التكيف مع تعقيدات السياسة الأمريكية، وامتلاك أدوات التأثير النافذ فيها. ومن ناحية أخرى لم يكن موقف المنظمات الأمريكية معزولا عن التوجه الانتخابي العام في صفوف المسلمين، البالغ عددهم 7 ملايين مسلم، حيث يتجه ما يفوق 80 في المائة منهم للتصويت على كيري، كما يمثلون كتلة حرجة محددة لنتجية الانتخابات فيما يعرف بالولايات الحرجة حسب ما ذكر بيان الإعلان عن دعم كيري كمشيجان وأوهايو وبنسلفانيا وويسكونسن وفلوريدا، خاصة وأن هذه الأخيرة تتقارب فيها نسب استطلاعات الناخبين حول المرشحين وتعرف وجود كتلة انتخابية مسلمة حرجة، مما يثير احتمال تكرار تجربة الانتخابات الأمريكية لنونبر 2000 عندما ساهم الصوت الانتحابي الإسلامي في ترجيح كفة بوش، إلا أن العكس هو المنتظر الآن. شريط بن لادن وخلط أوراق السباق الانتخابي لقد نقل الخطاب الأخير لأسامة بن لادن معركة الرئاسة الأمريكية إلى درجة من الإرباك والخلط، وشكلت بحق مفاجأة غير متوقعة في سير الانتخابات، سواء بالنظر لتوقيتها الدقيق، وذلك قبل أربعة أيام من الاقتراع، أو من حيث لغتها وأسلوبها وتعبيرها عن إرادة صريحة في التدخل في سير هذه الانتخابات، وترجيح كفة مرشح الحزب الجمهوري جون كيري، وتقديم أدلة جديدة على مسؤولية بوش في نجاح هجمات 11 شتنبر وتقصيره في الرد السريع. وفي الوقت نفسه التقليل من فرص حصول هجمات ضد الولاياتالمتحدة قبيل الانتخابات حيث أن نتائجها ستنعكس على استراتيجيات القاعدة وخياراتها العملياتية، كما جعل قضية الأمن ومكافحة الإرهاب تعود لتصدر التقاطب الانتخابي الأمريكي، وتستعيد دورها المحدد لنتائجه، مما برز في ردود الفعل على الشريط البصري لبن لادن والموجه للشعب الأمريكي حسب صاحبه. لقد اعتبر بوش الشريط دليلا على الحاجة لاستمراره في موقع الرئاسة لاستكمال ومواصلة الحرب التي بدأها ضده وتدعيم موقفه في أولوية الأمن في السياسات الأمريكية، إلا أن كيري وجد فيه دليلا إضافيا على أن الحرب على العراق لم تكن خطوة في القضاء على الإرهاب بقدر ما غدته وعطلت جهود الولاياتالمتحدة في تصفيته، وتكريس الفشل في القبض على قيادات القاعدة بعد أن ترددت أنباء في الآونة الأخيرة عن تواري بن لادن وتزايد دور أيمن الظواهري، وفي ذلك ظرفية جرى فيها الحديث عن تدهور صحة الأول، واشتداد الخناق عليهما في الحدود الأفغانية الباكستانية بعد الضغط الأمريكي المتواصل لدفع القوات العسكرية الباكستانية لشن حرب شبه منتظمة ضد القبائل في تلك الحدود، أي أن الشريط هو تعبير عن فشل أزيد من ثلاث سنوات بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر من المطاردة. كما أن الشريط المصور حديثا، حسب المحللين، بما لا يتجاوز الأسبوع ويصل لقناة الجزيرة في أقل من خمسة أيام، كشف بذلك عن اختراق نوعي في الحواجز الأمنية والسياسات التي اتخذت لحصاره. الواقع أنه يصعب الجزم بأن يكون للشريط دور في توجيه الناخبين لصالح كيري كلية، إلا أن تأثيره لصالحه قائم، كما زاد من تعقيد شروط فوز بوش، رغم سعيه لتوظيفه، وجعل مما تبقى من أيام على الاقتراع أكثر ضغطا وحسما في نتيجة الاقتراع، ولعل من اللافت أن بوش راهن على تصعيد الهجمات في العراق ضد الفلوجة كخيار لتحقيق انتصارات عسكرية تتيح تعزيز وضعه الانتخابي، إلا أن شريط بن لادن اعاد جهود بوش لنقطة الصفر، وفي الوقت الذي كان يواجه تحديا وحيدا متمثلا في العراق هاهو يواجه تحديا آخر ممثلا في استمرار خطر القاعدة، ويعيد النقاش الانتخابي للتمحور حول موضوع الأمن بعد أن استقطب القدر المعتبر من المناظرات الرئاسية التلفزيونية الثلاث، ويقدم لكيري فرصة أخرى لنقد السياسة الخارجية والأمنية لبوش. خلاصة تتجه عموم استطلاعات الرأي لتأكيد التقارب الشديد بين كلا المرشحين، إلا أن الصوت الإسلامي وبعد شريط بن لادن أعطى للسباق الجاري زخما وتأثيرا يصعب تجاهله، مما سيفرض على أي قادم لموقع الرئاسة أن يراجع سياساته أمريكا تجاه العالم الإسلامي، بعد أن تعاظم دور المسلمين الأمريكان من جهة، وتنامت مؤشرات الفشل في تدبير علاقة عادلة ومتوازنة مع القضايا العربية والإسلامية، وانقلب التورط في العراق والتواطؤ مع الكيان الصهيوني على الإدارة الأمريكية بشكل فاق توقعاتها وحساباتها من جهة أخرى. مصطفى الخلفي