خلال الأسابيع الأخيرة كانت حكاية الحوار الأوروبي مع "الإسلاميين المعتدلين" تتصدر الواجهة السياسية، وبالطبع على خلفية انتشار هذه "الموضة" في الوسط الأمريكي بعد حوار بيروت بين دوائر أمريكية "غير رسمية" وبين قياديين من حزب الله وحماس، وإثر صدور عدد من الدراسات والأبحاث والمقالات لكتاب أمريكيين كبار يتحدثون عن ضرورة الحوار مع تلك الفئة من الإسلاميين. وسنركز هنا على الحوار مع الأمريكيين بوصفه الأكثر أهمية، من دون التقليل من أهمية الحوار مع الأوروبيين. هناك الكثير مما يمكن الحديث عنه في هذا السياق، ونحن في هذه السطور لا نتبنى موقفاً مناهضاً لمبدأ الحوار مع أي طرف باستثناء الإسرائيليين، على رغم أنني شخصياً من الذين رفضوا غير مرة، ولا زالوا يرفضون المشاركة في حلقات حوار مع أطراف أمريكية أو غربية، لكن ذلك لا يحول دون التذكير ببعض الإشكاليات التي تطرحها هذه الممارسة، وسب التعاطي معها. لا خلاف على أن في المعادلة التي نحن بصددها طرفان؛ الأول هو الطرف الإسلامي، أكان ممثلاً في حركات أو تجمعات سياسية أو فكرية، أم تمثل في رموز فكرية وسياسة لها حضورها الشعبي والمعنوي، وإن كانت مستقلة عن الأطر الحزبية، أما الطرف الثاني فهو الطرف الأمريكي، أكان ممثلاً في سياسيين رسميين أم مؤسسات بحثية أم منظمات مجتمع مدني مستقلة. في هذا السياق ينبغي التأكيد على أن معظم الجهات التي تعرض الحوار هي من النوع الثاني، لكنها في واقع الحال من ذات النوع الأول، بل ربما أسوأ من ذلك في بعض الأحيان، لاسيما حين تنتمي إلى المؤسسة العسكرية والأمنية والاستخبارية الأمريكية التي ترصد الوقائع على الأرض من أجل تقديم تقارير أكثر دقة للمؤسسات التي تتبع لها. هنا تبرز إشكاليتان؛ الأولى أن هدف الحوار ليسر بريئاً بحال من الأحوال، بل ينطوي على قدر من الكذب والاستغفال، وهنا قد يرى البعض أن ذلك ليس مشكلة بحال، لأن من الأفضل أن تحصل تلك الجهات على معلوماتها من المصدر الصحيح بدل الحصول عليها من جهات معادية للإسلاميين، مثل اليساريين الذين تأمركوا أو العلمانيين المتطرفين، وهي حجة تبدو وجيهة، لكن المشكلة الأخرى تبدو أكثر إثارة، إذ كثيراً ما تكون تلك الحوارات مقدمة لاختراق سياسي، بل أمني في بعض الأحيان، فمن خلال جلسات الحوار يتمكن المعنيون من الطرف الأمريكي من قراءة الخارطة الداخلية للمشاركين ومن وراءهم، ويتمكنون تبعاً لذلك من استقطاب بعض الرموز، أكان في سياق العمل المباشر معهم، أم في سياق تمرير توجهات داخلية تصب في صالح الأمريكان وبرنامجهم. والخلاصة هي أننا إزاء ذات اللعبة التي تمارسها الأنظمة في سياق اختراق الحركات الإسلامية وحركات المعارضة عموماً وسرقة رموزها وشق صفوفها وتغيير توجهاتها، فضلاً عن التوغل في خارطتها الداخلية بمختلف تنوعاتها وبرامجها. شكوك الجماهير ومخاوف الأنظمة الجانب الإشكالي الآخر في الحوارات المشار إليها هي ما تبعثه من رسائل في هذا الاتجاه أو ذاك؛ فهي من جهة تثير غباراً كثيفاً حول الجهات العربية أو الإسلامية التي تشارك فيها من زاوية أحاسيس الشك الفطري في أوساط الجماهير العربية والإسلامية حيال أية جهة تحاور الأمريكان أو تتقرب منهم بأي شكل من الأشكال، لاسيما في هذه المرحلة التي يحظى بها الأمريكان بمستوى من الكراهية غير المسبوقة في الشارع العرب والإسلامي. ومن جهة أخرى فهي تثير شكوكاً في أوساط الأنظمة، وبالطبع خوفاً من توافق أمريكي مع قوى المعارضة في سياق الخوف من الاستبدال، وإذا اعتقد البعض أن في هذا القول بعض المبالغة، فإننا نذكره بأن أحاسيس الخوف من البديل لدى النظم الحاكمة غالباً ما تريها "الحبة قبة" كما يقول المثل الشائع، والنتيجة التي غالباً ما تتمخض عنها اللعبة هي ميل الأنظمة إلى التسابق على حضن الأمريكان وإقناعهم بأنها الأفضل لهم في كل الأحوال. ألا نرى كيف دأب غير زعيم عربي على تذكير وربما تحذير واشنطن بأن بديل الأوضاع القائمة هم الإسلاميون المتطرفون؟! إدراك هذه الأبعاد هو تحديداً ما يفسر الموقف الذي اتخذه الإخوان المسلمون المصريون عندما رفضوا التحاور مع الجهات الأمريكية بغير علم الحكومة المصرية وحضور مندوب عنها للحوار، وهو ما أكسبهم المزيد من ثقة الشارع، فيما أفشلوا لعبة استخدامهم في سياق ابتزاز النظام من أجل دفعه نحو مزيد من التراجع في الملفات الحيوية في المنطقة. إشكالية الموقف الإمبريالي هناك إشكالية أساسية دائمة تواجه الحوار الإسلامي مع الغرب عموماً، ومع الولاياتالمتحدة على نحو خاص، وهي تلك الممثلة في روحية التعاطي مع منطقتنا وشعوبنا، وربما ديننا وهويتنا أيضاً، ذلك أن بقاء العلاقة أسيرة لغة الهيمنة والابتزاز لا زال ينزع الدسم من أي حوار، ويجعل لغة العداء هي السائدة. والحال أنه من دون أن يكف الغرب عن النظر إلينا كأجزاء مشتتة ينبغي أن تبقى كذلك كي تسهل لعبة السيطرة عليها وإبقائها مصدراً للخام الرخيص وسوقاً للاستهلاك، مع الحيلولة الدائمة دون استعادتها لأمجادها القديمة في لعب دور محوري على الصعيد الدولي .. من دون أن يحدث ذلك سيبقى الحوار شكلاً من أشكال حوار الطرشان إلى جانب كونه لعبة مرفوضة من ألعاب التدجين والاختراق، ما يجعل صوت المشككين فيه هو الأقوى والأكثر إقناعاً في معظم الأحوال. خلاصة القول إنه من دون تجاوز الروحية الإمبريالية في سلوك الغرب عموماً، والولاياتالمتحدة خصوصاً في النظرة إلى هذه المنطقة، فإن الحوار يغدو نوعاً من العبث والإلهاء الذي لا يصب إلا في صالح الطرف القوي بجعله أكثر وعياًُ بأعدائه، وأكثر قدرة على الحيلولة دون تحسين قدرتهم على مواجهته بمختلف أشكال المواجهة، وبالطبع من خلال أساليب شتى في الاختراق والتوظيف وضرب بعضهم ببعض. من أفغانستان إلى العراق إلى السودان، وربما إلى فلسطين التي لم تنجح فيها اللعبة إلى الآن، تعمل الولاياتالمتحدة على استخدام طرف إسلامي من أجل ضرب الطرف الآخر، في وقت يعلم الطرفان أنها لا تنسجم مع أي منهما، وأن الثور الأسود سيتبع الأبيض حين تسنح الفرصة، لكن اللعبة لم يكن بوسعها غير سلوك هذا السبيل التكتيكي. الموقف من الاحتلال الإسرائيلي هناك إشكالية أكثر أهمية من ذلك كله بالنسبة للولايات المتحدة في هذه المرحلة، وهي تلك المتعلقة بالموقف من الاحتلال الإسرائيلي، أو تبني الأجندة الإسرائيلية لمستقبل المنطقة، وقبله مستقبل الصراع على الأرض الفلسطينية، وهي إشكالية كانت حاضرة على الدوام مع الإدارات الأمريكية السابقة، لكنها اليوم أكثر حضوراً في ظل المحافظين الجدد الذين يتحركون على إيقاع الهواجس الإسرائيلية، أكثر مما يتحركون على إيقاع المصالح الأمريكية. وفي العموم فإن على الإسلاميين الذين يحاورون واشنطن أن يسألوا أنفسهم عن النقطة التي يمكن أن يصلوا إليها في سياق التعامل مع البرنامج الإسرائيلي، أكان في شقه المتعلق بنمط التسوية مع الفلسطينيين، وحيث الدويلة الهزيلة في غزة وأقل من نصف الضفة الغربية من دون القدس ومن دون عودة اللاجئين، ومع اقتسام المسجد الأقصى، أم في شقه المتعلق بالتطبيع والاختراق وآمال الدولة العبرية في تسيّد المنطقة سياسياً واقتصادياً، ذلك أن من يرفض هذا البرنامج سيكون مرفوضاً حتى لو خلع ثيابه الأخرى جميعاً، بما في ذلك الأيديولوجية منها. في الرد على ما ورد آنفاً، غالباً ما يبادر البعض إلى طرح نموذج العلاقة الأمريكية مع حزب العدالة والتنمية التركي، وهنا ينبغي التذكير بأن الحزب قد كف عن أن يكون إسلامياً، الأمر الذي لا يجعله بعيداً عن مضمون هذا الطرح، ومع ذلك دعونا نتعامل معه من باب الجدال، وهنا ينبغي الإشارة ابتداءً إلى حداثة التجربة وصعوبة الجزم بمآلها، فيما يتبدى الآن أن الغضب الأمريكي على مواقف الحزب قد انعكس في حملة العسكر الجديدة على برنامجه، وهي حملة لن تتوقف قبل أن يقدم تنازلات كافية لواشنطن وقبل ذلك لتل أبيب، ما يعني أن معادلة الموقف منه ستبقى هي ذاتها في الحالات الأخرى. وقد تبدى ذلك كله في سياق الحملة التي شنها رئيس هيئة أركان الجيش التركي حلمي أوزكوك على مقولات أن تركيا دولة إسلامية أو مسلمة أو حتى نموذج إسلامي، وقبلها وبعدها مواقف مدعى عام محكمة أمن الدولة والرئيس التركي نفسه، وهي حملة ما كان لها أن تنطلق لو توفر الغطاء الأمريكي لأردوغان، لكن مواقفه المعروفة حيال العراق، وحيال الدولة العبرية، قد تركت آثاراً على علاقته مع واشنطن. لقد أدرك الرجل أن وضعه سيغدو على كف عفريت إذا لم يبادر إلى ترميم العلاقة من خلال سياسات جديدة حيال الملفات الكثيرة العالقة، ومن بينها ملف الكراهية الواسعة للأمريكان في الأوساط التركية، وهي التي تبدت من خلال استطلاع للرأي أكد أن 82% من الشارع التركي يكره الولاياتالمتحدة، وهنا تحديداً جاءت زيارته إلى تل أبيب وما واكبها من صفقات عسكرية، وقبلها صفقة كبيرة لتطوير طائرات الإف-16 مع الولاياتالمتحدة، وكل ذلك يؤكد أن واشنطن التي تبتز الأنظمة العربية بسيف الإصلاح هي ذاتها التي تبتز أردوغان بسيف العسكر، فيما تمنح دكتاتورية برويز مشرف وسام الرقي الديمقراطي!! ما جرى إذن لا زال يؤكد ما ذهبنا إليه آنفاً من أننا إزاء تجربة لا تزال في بداياتها وأن الجزم بمآلها يبدو صعباً إلى حد كبير، مع ضرورة التذكير مرة أخرى، بأن فك الارتباط الذي أحدثه أردوغان مع خلفيته الإسلامية قد جعله نموذجاً آخر لا يلتقي بالضرورة مع النماذج الإسلامية المعتدلة كما تسمى في الأوساط الغربية، أعني تلك التي تسعى إلى تثبيت مرجعية إسلامية للدولة والمجتمع، حتى لو قدمت نماذج لأحزاب مدنية لا ترفع شعار الإسلام في عناوينها الرئيسة، وهو ما يطالب به الإخوان المسلمون في مصر هذه الأيام، بل سبق أن طالب به فريق منشق عنهم قبل سنوات من خلال ما عرف بحزب الوسط. الجماهير ليست تابعاً لأحد بقي أن نذكر بالسؤال الأساسي الذي يطرح نفسه على تلك الجهات الإسلامية وغير الإسلامية الماضية في اتجاه الحوار، وهو إلى أي مدى يمكنها أن تكون أكثر رضوخاً أمام الغرب وقبولاً بإملاءاته من الأنظمة القائمة، وهل ستضمن عندما تفعل ذلك أن تحظى بثقة الجماهير التي حصلت عليها في سياق عملها المعارض لفساد الداخل ومعه الخضوع لرغبات الخارج المعادي لأشواق الأمة في الكرامة والتحرر؟! إن على هؤلاء جميعاً أن يتذكروا أن الجماهير العربية والإسلامية لا تحدد موقفها بناء على الشعار، وإنما بناء على الممارسة، بل إن ردة فعلها غالباً ما تكون عنيفة على من يناقضون أنفسهم ويتصرفون خلافاً للشعار الذي يطرحونه. إنها جماهير مؤمنة، تملك عقلاً جمعياً واعياً ينحاز للحق والحقيقة لأن مخزونه الفكري والثقافي عامر بالنماذج الطيبة من العظماء والأبطال، بدءً بصاحب الرسالة عليه أفضل الصلاة والسلام، ومروراً بالصحابة ومن بعدهم جحافل من العظماء لا ينتهي مددها إلى يوم الدين. ومن هنا يغدو من العبث أن يعتقد بعض الإسلاميين "التنويريين"، بحسب تعبير يروج هذه الأيام، أن الجماهير التي كسبوها في مرحلة النظافة السياسية ستبقى رهن إشارتهم في كل المراحل اللاحقة. من هنا يمكن القول إن مراهنة الولاياتالمتحدة على استخدام حوارها مع الإسلاميين من أجل الضغط على الأنظمة بهدف تحقيق المزيد من الابتزاز هو الخطر الأساسي الذي يطرح نفسه في سياق هذا الملف، أما انتظار التوازن والإنصاف ومنح الشعوب المسلمة حريتها في اختيار قادتها والكف عن دعم الكيان الصهوني، فهو الوهم الذي لا مكان له إلا في عقول الذين يريدون تبرير ممارساتهم الإشكالية، وفي العموم فإن خطاب الاعتدال الإسلامي الذي يدرك هذه المعادلات جميعاً هو الذي سيحظى بالاحترام في نهاية المطاف، أما غيابه فهو وصفة العنف والفوضى بلا حدود كرد على عنف الآخر وغطرسته مقابل غياب الرد العاقل المتزن عليه. ما من شك أن بإمكان القوى الإسلامية أن تحاور الأمريكان والغرب، لكن ذلك ينبغي أن يتم في ضوء إدراك الحقائق على الأرض، أما إيهام النفس بصدق مقولات الإصلاح الأمريكية، فهي الكارثة بعينها لأن ما سيجري هو استخدام قذر يفقد تلك القوى مصداقيتها وبالتالي جماهيرها، في ذات الوقت الذي يدفع الأمة خطوات إلى الوراء بمزيد من تراجع أنظمتها أمام الضغوط الأمريكية. على الحركات الإسلامية أن تحاور الأمريكان وعينها على جماهيرها، وعلى مصالح الأمة، ولن يحدث ذلك من دون إجراء الحوار بشفافية عالية وبعلم الجماهير والحكومات، وبخطاب ندي لا يهادن؛ خطاب يرفض الاحتلال والابتزاز، في ذات الوقت الذي يجيش الشارع في معركة الإصلاح، وإذا ما أخذت الأنظمة في التراجع من أجل كسب الأمريكان إلى صفها، فيجب المبادرة إلى فضحها ودفع الجماهير إلى مزيد من التحرك من أجل إصلاحها. لا شك أنها معركة صعبة ومعقدة، ففي حين تبدو معركة الإصلاح الداخلي على درجة كبيرة من الأهمية، فإن مواجهة مخطط الشرق الأوسط الكبير الرامي إلى مزيد من التفتيت وتكريس التبعية وصولاً إلى هيمنة الدولة العبرية على المنطقة، لا تقل أهمية، وفي كل الأحوال فإن على القوة الحية في الأمة أن تتصدى للمهمتين في آن معاً. ياسر الزعاترة