أما وقد مرت مباراة مصر والجزائر على خير، ولم يحدث الأسوأ الذي خشينا منه. فأحسب أن الأعصاب الآن أهدأ قليلا مما كانت عليه قبل 48 ساعة، على الأقل حتى يحسم الأمر في مباراة الأربعاء بين الفريقين. وهذه «الهدنة» بين المباراتين تسمح لي بإبداء بعض الملاحظات على المشهد، ألخصها فيما يلي: * إن احترام مشاعر الجزائريين وكسب ودهم أهم بكثير من كسب المباراة، ولا ينبغي بأي حال أن نحرز أهدافا ونخسر شعبا شقيقا، ولئن قيل إن بعض الممارسات الصادرة هنا ردود أفعال لتحرشات وتراشقات هناك، فينبغي ألا ننسى أن الرعاع والحمقى موجودون على الجانبين، ثم إن الذين يتحرشون هناك ليسوا الشعب الجزائري الذي لا تحصى فضائله، فضلا عن سجله النضالي المشرّف، وفي كل الأحوال فإن التصرفات المصرية ينبغي ألا ننسى للحظة أنها تصدر عن مصر الكبيرة الأوسع صدرا والأكثر وُدَّا وبرا. * إن مفهوم الرياضة بات يحتاج إلى إعادة نظر، بعدما أصبحت الروح الرياضية بمنزلة مزحة غير قابلة للتصديق، ولا أعرف كيف يمكن إعادة الوصل بين الرياضة والأخلاق، لكني أحسب أن تلك مسؤولية القائمين عن الشأن الرياضي من ناحية، وأجهزة الإعلام الرسمية من ناحية ثانية، وأضع خطا تحت كلمة «الرسمية» بمعنى المعبرة عن سياسة الدولة، لأن بعض الأبواق الإعلامية الخاصة لم تكترث بمسألة الأخلاق هذه، وكان همّها هو إثارة الجماهير وتأجيج مشاعرها، ولم تتورع في ذلك عن استخدام أساليب اتسمت بالهبوط والسوقية. * إننا في مصر أسرفنا على أنفسنا كثيرا في التعامل مع المباراة، وأعطيناها حجما أكبر بكثير من حجمها الحقيقي، رغم أنها لم تكن مباراة للفوز بكأس العالم في كرة القدم (وهو مقام رفيع لا أعرف قيمته بالضبط)، بقدر ما أنها مباراة لتحديد الطرف الذي سيهزم في النهاية أمام فريق البرازيل في نهاية المطاف. لقد قرأت يوم 13 نوفمبر لأحد الزملاء في جريدة محترمة هي «الأهرام» رسالة موجّهة إلى منتخب مصر القومي قال فيها أحد الزملاء ما نصه: يا فرسان النيل يا أحفاد بناة الأهرام.. فقراء الوطن ينادونكم لتحققوا حلمهم الوحيد.. لا يبغون إلا شيئا واحدا: رؤية علم مصر يوم افتتاح المونديال لو فعلتموها ستحلون كل مشكلاتنا وتداوون كل أوجاعنا وتقتلون كلاب بطوننا التي تعوي هل هذا معقول؟! * سمعت من كثيرين أن الناس تريد أن تفرح، وهذا حق مشروع أتفهمه، ولكن ذلك يثير السؤال التالي: ألم تعد في بلادنا وسيلة لإدخال الفرح والسرور إلى قلوب الناس سوى مباريات كرة القدم؟ ولأن ذلك الفرح يستمر لأكثر من ليلة أو اثنتين، يعود بعدهما الناس إلى الاستغراق في همومهم اليومية، فهل نكون في هذه الحالة بصدد فرح يعمر القلوب ويسكنها، أم بإزاء مخدر يتعاطاه الناس لبعض الوقت، ثم يزول أثره بعد ذلك ليفيقوا على واقعهم الذي لم يتغير فيه شيء؟ وإلا يعني ذلك أننا حين فشلنا في إسعاد الناس، فإننا لجأنا إلى تخديرهم! * إنني أتفهم حقا رغبة الناس في الفرح، لكنني لاحظت أن اللوثة التي أصابت الناس وصلت عدواها إلى قنوات التلفزيون الرسمي، بل أزعم أن تلك القنوات هي التي قادت اللوثة وأشاعتها، الأمر الذي يدعوني إلى التساؤل: هل الحكومة أيضا تريد أن تفرح؟ وإذا صح أن الحكومة مكتئبة وأن الشعب مكتئب بدوره، ألا يدعونا ذلك إلى النظر في تشخيص المشكلة بصورة أعمق، لا بالاختباء وراء التهليل لمباريات كرة القدم؟ * خروج الملايين لمناصرة المنتخب القومي له دلالات عدة، إحداها أن مشاعر الجماهير الجياشة انطلقت حينما وجدت قضية تعبر عن اعتزازهم بوطنهم أجمعوا عليها، وهو ما ينبهنا إلى غياب الأهداف المشتركة، التي تستقطب الجماهير وتستنفر همتها، الأمر الذي يشكل تحديا فشلت فيه السلطة. إذ بدلا من أن تستدعي الإجماع الوطني وتعمل على تفجير طاقات المجتمع واستثمارها فيما ينهض بالبلد ويدفع عجلة تقدمه، فإنها اكتفت بدغدغة مشاعر الناس وقيادة حملة تخديرهم بفرح عابر لا يقدم شيئا في حياتهم أو يؤخر. إن سكرة الفوز المؤقت حين تذهب، فثمة أكثر من فكرة ينبغي أن نعيد النظر فيها قبل فوات الأوان.