في الجزء الثالث من كتابها، وضعت الدكتورة رجاء ناجي مكاوي مدونة الأسرة على مشرحة التقييم، وقدمت تفسيرا للصعوبات والحواجز التي تحول دون التطبيق الأمثل للمدونة وتمنعها من تحقيق مقاصدها في تمتين تماسك ألأسرة المغربية وتضامنها، وحاولت أن تطرح رؤية نقدية تجاوزية للإشكالات التي أطرت المقاربات التي تناولت قضية المدونة، من خلال دعوتها إلى الانتقال من منطق إصلاح النصوص القانونية إلى استنطاق روحها ومن حقوق المرأة إلى تعزيز مكانة الأسرة. وترتكز الرؤية التي تنطلق منها رجاء مكاوي أن الإشكال ليس بالضرورة في النص القانوني، ولكن في سوء فهمه وتأويله، وعدم توفير الآليات والشروط الضرورية لإنجاح تطبيقه، وفي ضعف أو غياب الدعم الاجتماعي للأسرة من قبل مؤسسات المجتمع المدني، وتقترح في آخر كتابها إيلاء الأهمية لمؤسسة الصلح والتحكيم والدعم الاجتماعي الذي يمكن أن تقوم به جمعيات المجتمع المدني لدعم الأسرة وضمان تماسكها فضلا عن دور الإرشاد الأسري في تقوية أواصرها. الجديد الذي حملته مدونة الأسرة: المبادئ والتدابير قدمت الدكتورة رجاء ناجي مكاوي الكتاب بتوطئة ضمنتها جديد المدونة سواء على مستوى المبادئ المتقدمة التي ركزت عليها، أو على مستوى التدابير والإجراءات. فعلى مستوى المبادئ المتقدمة، ترى الدكتورة رجاء ناجي مكاوي أن المدونة جاءت بثمانية مبادئ رئيسة: 1 المساواة وكرامة المرأة. 2 تقييد التعدد. 3 زواج المغاربة المقيمين بالخارج. 4 إصلاح الطلاق وضمان الحقوق: 5 حقوق الأطفال. 6 نسب الأطفال المولودين أثناء فترة الخطبة. 7 ميراث أبناء البنت 8 تدبير الملكية المشتركة. أما على مستوى التدابير، فقد ركزت الدكتورة مكاوي على سبعة إجراءات أساسية: 1 إنشاء محاكم خاصة بالأسرة حديثة تتسم بالكفاءة والنزاهة. 2 ضمان السرعة المطلوبة في معالجة القضايا وتنفيذ الأحكام. 3 دليل عملي يشمل مختلف الأفعال والإجراءات المتعلقة بمحاكم الأسرة. 4 ضمان وجود موظفين مؤهلين للتدريب على مختلف المستويات، مع إيلاء الاعتبار للسلطات التي تسهر على تطبيق هذا القانون. 5 توفير الأماكن المناسبة لمحاكم الأسرة في مختلف محاكم المملكة. 6 تقليص الآجال المتوقعة في قانون المسطرة المدنية الحالي بخصوص تنفيذ الأحكام الصادرة بشأن المسائل المتعلقة بقانون الأسرة. 7 إنشاء صناديق لدعم الأسرة. هل عززت فعلا المدونة الجديدة مكانة الأسرة المغربية؟ بعد تذكيرها بالمبادئ والتدابير الجديدة التي أتت بها مدونة الأسرة، انتقلت الدكتورة رجاء ناجي مكاوي إلى تقييم خمس سنوات من تطبيق المدونة من خلال سؤال جوهري ساءلت فيه مدى مساهمة المدونة في تعزيز مكانة الأسرة. وتشير الدكتورة في هذا الصدد بأن السنتين الأوليين من تطبيق المدونة كان الجواب عن هذا السؤال غير مطمئن، وكانت حالة الإحباط بمختلف الألوان هي السائدة، وكان الانتقاد الأكبر الموجه للمدونة هو أن عدم مناسبة السياق الذي تنزل فيه، والصعوبات التي تمنع التطبيق الأمثل لها، وبشكل خاص: 1 محاكم الأسرة التي حملتها المدونة مسؤوليات ثقيلة لكن في غياب الوسائل الضرورية سواء على المستوى الكمي (عدد القضاة غير الكافي بالمقارنة مع عدد القضايا التي تم رفعها) أو على مستوى غياب مؤسسات الدعم الاجتماعي التي أكدت عليها المدونة، أو على مستوى عدم كفاية الموارد البشرية كميا وكيفيا، أو على مستوى عدم تفعيل آليات الوساطة والتحكيم التي نصت عليها المدونة (تفعيل نادر لمجلس العائلة) أو على مستوى احترام آجال القضايا. 2 الحواجز الثقافية والاجتماعية وتسييس قضية الأسرة: وهي عوامل كان لها تأثير واضح على تطبيق المدونة، وتشير الدكتورة في هذا الصدد إلى النسبة الضئيلة التي سجلتها عقود الزواج المصحوبة بعقود تدبير الثروة المشتركة حيث لم تتجاوز 15,0 في المائة من مجموع عقود الزواج المسجلة وتفسر الدكتورة ناجي تضاؤل هذه النسبة بالخلط الذي ينشأ في أذهان كثير من النساء من جراء تبني التقاليد والطابوهات (الحشومة)، أو بسبب تأثير بالوعي المحرض على حد تعبير الدكتورة ناجي مكاوي الذي شوه مضمون نصوص المدونة وحرف روحها ومقاصدها، كما ترى أن المدونة على الرغم من الشروحات الموسعة التي رافقت إصدارها والسنوات الأولى من تطبيقها إلا أنها ما زالت موضوعا للكثير من الخلط والأوهام والتناقضات حتى من قبل المتخصصين أنفسهم والمتعلمين ناهيك عن العوام، وفي هذا الصدد تشير الدكتورة إلى الأوهام التي تنشأ من الخلط بين القوانين التي تضمنتها مدونة الأسرة وبين مطالب بعض الجمعيات النسائية التي تتداول بشكل واسع إعلاميا، وأيضا الأوهام التي يحملها البعض عن موضوع تقسيم الثروة بعد الطلاق، وموضوع إثبات النسب واللجوء إلى الخبرة الطبية، وموضوع التعدد، ومسألة تيسير الطلاق، والتي تؤول على أساس أنها تشجيع وتحريض من قبل المدونة على تدمير الأسرة. وتقف الدكتورة رجاء ناجي على التحدي الذي يشكله أدلجة موضوع الأسرة وتسييسه من قبل المنظمات غير الحكومية، فعلى الرغم من تأكيدها على الخلافات التي تعبر عنها المكونات الموجودة داخل المجتمع المدني، إلا أنها ترى أنه ليس مقبولا أن يتم الاستعمال السياسي لقضية المرأة من قبل بعض الجمعيات النسائية والذي يشكل خطرا حقيقيا على الأسرة واستقرارها خاصة في ظل التحولات العالمية التي أحدثت انقلابا في وضعية الأسرة من السكن إلى اللااستقرار، ومن التضامن إلى الفردانية، من الأسرة التي تشكل نواة المجتمع إلى تأليه الفرد، هذا فضلا عن تغير أدوار كل من الرجل والمرأة. ففي نظر الدكتورة رجاء ناجي مكاوي، أدلجة قضية الأسرة وتسييسها يزيد وضعها هشاشة، ولا تساهم في تقديم أي حل لها كما أنها لا تستطيع أن تقاوم ولا أن تستمر في تشكيل نفسيات متوازنة أو قادرة على ضمان نقل القيم. وفي نفس السياق تعرض الدكتورة ناجي لتحد آخر يتفرع عن سابقه، وهو ما أسمته بنسونة قانون ألأسرة إذ حيثما يوجه قانون الأسرة العناية والاهتمام لقضية الأسرة واستقرارها وانسجامها وصفاءها بحسب ما تقتضيه المقاصد العليا للمدونة، تدفع به بعض الجمعيات النسائية إلى متاهات لا نهاية لها من الخصومة المصطنعة بين الجنسين وبين الأجيال. وتؤكد الدكتورة ناجي في هذا الصدد أن الخطاب الصراعي الممركز حول الذات يقتل النقاشات الحقيقية حول الأسرة ويربكها، وأنه من الضروري عدم وضع خصومة بين حقوق المرأة وقانون الأسرة، وعدم تغافل مقاصد المدونة والهدف الرئيس التي جاءت من أجل تحقيقه وهو ضمان استقرار الأسرة وتعزيز تماسكها وانسجامها. وفي نفس الإطار، تعتقد الدكتورة في تقييمها لتطبيق المدونة، أن من أكبر التحديات التي منعت التطبيق الأمثل لها على مستوى التمثلات الثقافية والاجتماعية ما أسمته بالحسابات المادية التي تقتل التضامن الأسري والقيم العليا التي تقوم عليها الأسرة، وتؤكد الدكتورة رجاء ناجي على أن الحياة الأسرية التي تقوم على أساس التفاني والإيثار ، والمحبة ، والكرم... والبطولة (القيم المرجعية التي تؤسس عليها الأسرة) تتنافى تماما مع الأنانية، وأن كثرة الحسابات المادية تسرع انهيار الأسرة، وتزيد التأكيد بأن التفاني (خدمة الزوجة لزوجتها أو العكس) ليس خضوعا ولا ضعفا كما تصور ذلك بعض الأطروحات النسوانية التي تساهم في تقليص مساحة الإنسانية من الأسرة والمجتمع، وتدفع في نهاية المطاف المرأة إلى أن تتوقف عن أن تكون امرأة تقوم بدورها ووظيفتها في تعزيز قيم التضامن والتفاني والإخلاص والآثار والتضحية تلك الوظيفة التي لا يستطيع أحد غيرها أن يتحمل القيام بعبئها. وتذكر الدكتورة رجاء ناجي مكاوي في هذا الصدد بأن المدونة حين نصت على طلاق الشقاق إنما نصت عليه في إطار سياق متكامل (التحكيم، الصلح، الدعم الاجتماعي، المحافظة على استقرار الأسرة وتماسكها، دعم مؤسسة الزواج) في حين أن المجتمع الحداثي والإيديولوجيات التي تتأسس بشكل مستمر على أزمة القيم تشجع وتغذي ثقافة الشقاق وتعطل شيئا فشيئا وظائف الوساطة والصلح التي تدعم تماسك الأسرة واستقرارها. وتنتقد الدكتورة رجاء ناجي مكاوي في هذا الصدد المنظمات غير الحكومية، وتسائلها عن دورها في دعم ثقافة الصلح لاسيما وأن الأرقام التي سجلتها خمس سنوات من تطبيق المدونة تتحدث عن ارتفاع نسبة اللجوء إلى طلاق الشقاق من طرف الزوجين حيث تتجاوز نسبة 65 في المائة بالمقارنة مع بقية إجراءات الطلاق الأخرى المكلفة، بل إن الواقع يؤكد بأن اختيار طلاق الشقاق إنما يتم فقط من أجل تسهيل عملية انفصال الزوج عن الزوجة خلافا للمقاصد التي راعتها المدونة فيه وهو ما يعكس تناقض واقع تطبيق المدونة مع أهداف ومقاصدها في طلاق الشقاق، في الوقت الذي كان من الممكن أن يعزز دور التحكيم والوساطة لحل المشاكل الزوجية وذلك بأن تضطلع العديد من المؤسسات (ليست بالضرورة قضائية) بهذا الدور مثل مجلس العائلة، وجمعيات في المجتمع المدني، الوسطاء المتخصصين.... من إصلاح النصوص إلى استنطاق روحها وتعزيز مكانة الأسرة تعتقد الدكتورة رجاء ناجي مكاوي أن مدونة الأسرة تتوفر على أفضل الأجهزة في العالم، وأن الرهان ينبغي أن يكون على التطبيق الأمثل لنصوصها لضمان تماسك الأسرة وانسجامها، وأن المسؤوليات مضاعفة ومتشابكة، وأنه بالإضافة إلى دور الجهاز القضائي، لا بد من الالتفات لعوامل أخرى ضرورية تفسد بشكل ظاهرة العلاقات الزوجية. وترى أن مدونة الأسرة تمثل ميثاقا منسجما ومصدر إلهام يمكن تحقيق العديد من التطلعات لو تم الارتكاز عليها: قانون الأسرة، وأيضا المراجعة التي لحقته، قد صمم أصلا لتحقيق الاستقرار الأسري والمساهمة في دعم السلم الاجتماعي وأنه لهذا الغرض التشريع الإسلامي، والمشرع المغربي كان يضع في اعتباره تعزيز التوازن وتحقيق العدالة والمساواة غير التنافسية. على مستوى التطبيق: الفاعلون الذين كان من المفترض أن يقوموا بأدوار لتحقيق هذه الأهداف المعلنة في نصوص المدونة لم يستطيعوا منذ بالبداية فهم فلسفتها ولا نقلها إلى واقع العمل. الفشل في تنزيل هذه الفلسفة لا يرجع فقط إلى المشرع ولا إلى وزارة العدل ولا إلى المحاكم، لأن هذه الأجهزة لا تتدخل إلا في مرحلة متقدمة حينما تتدهور العلاقات الزوجية. في حين أن القانون والمؤسسات المكلفة بتطبيق المدونة، يلجأ إليها باعتبارها الملاذ الأخير للتوصل إلى مخرج عبر التقاضي وليس الوصول إلى حل جدري. الحواجز التي تمنع تطبيق المدونة كثيرة ومتنوعة، تنظيمية وإجرائية ولوجستية وبشرية ومؤسسية وغيرها و الوصول إلى تحقيق العدالة لا يمكن تصوره من غير تفعيل الوساطة والصلح. وأن القاضي الكفء لا يستطيع وحده أن يحقق العدالة التي تقصد المدونة تحقيقها إلا بمشاركة بقية المؤسسات الاجتماعية في عملية الدعم للأسرة والحفاظ على تماسكها، وأن الأسرة نفسها لا بد أن تستعيد دورها في إرساء قيم العيش المشترك والقيم التربوية والأخلاقية، وأن المحيط ينبغي أن يلعب دوره أيضا في إعادة الاعتبار لثقافة التحكيم بين طرفي الأسرة، وأن المواطن نفسه ملزم بأن يصحح الأوهام الخاطئة التي يتمثل بها بعض نصوص المدونة. وفي هذا الإطار تعتبر الدكتورة رجاء ناجي مكاوي أن المدرسة، والهيئات الدينية والمجتمع المدني ووسائل الإعلام معنية بالانخراط في ضمان التطبيق الأمثل لنصوص المدونة، وتركز الدكتورة ناجي بشكل خاص على المنظمات غير الحكومية وعلى وسائل الإعلام وتؤكد على أنهما يؤثران على تطبيق جوهر النصوص في اتجاهين معاكسين: سواء بالاتجاه نحو تكريس ثقافة الفردانية وإشاعة ثقافة الخصومة بين الجنسين وضرب أسس وحدتهما.. أو عبر إذكاء ثقافة التحفظ والمحافظة على النموذج السلفي للأسرة. من أجل سياسة أسرية تتأسس على القيم والأسرة ضمن هذا المحور الهام تعتبر الدكتورة ناجي أن الحواجز الثقافية والاجتماعية والسوسيو قتصادية فضلا عن العوائق الناتجة عن عدم مسايرة البنية المؤسسية للمقاصد التي أعلنت عنها المدونة، لا يمكن تخطي كل ذلك إلا بسياسة ترتكز على القيم وتضع في اعتبارها الحفاظ على حياة الأسرة وتماسكها. وفي هذا الصدد ترى الدكتورة رجاء ناجي أنه لا يمكن أن نمضي أية خطوة أكيدة نحو تطبيق أمثل للمدونة إن لم يتم إعادة النظر في نموذج القيم التي صارت الأسرة المغربية تتغذى عليها، وبشكل خاص ثقافة الفردانية التي تختزل جوهر الحياة في تحقيق التطلعات المادية غير المتناهية، وأنه حان الوقت للتوقف عن الاعتقاد بأن الحضارة الغربية المعاصرة قامت على نبذ المقدس وأن الوثنية انتهت في الثقافات الحداثية، في حين أنها أحدثت مقدسها الخاص غير المعلن المتمثل في الفردانية والحرية الفردية (جنسية وغيرها) وكل ما يفكك العيش المشترك. وتعتقد الدكتورة مكاوي أن التناغم بين الحداثة والمدونة ممكن، وأن التجربة الآسيوية (نموذج اليابان، ماليزيا، إندونيسيا وتايوان) تنهض دليلا على إمكانية التوفيق التوفيق بين معطيات الحداثة وبين المدونة. وفي هذا الصدد ترى الدكتورة ناجي أن السياق الحالي لا يسمح بتحقيق تقدم شامل، لكن هذا لم يمنعها من الإشارة إلى جملة من النقاط التي تراها أساسية في عملية الإصلاح: المقاربة الشاملة لقضية الأسرة وبشكل خاص تحديد حقوق الفرد باعتباره جزءا من الأسرة، وسياسة الأسرة الإسلامية ينبغي أن تشمل جميع جوانب الحياة وأن تفعل كل الآليات الممكنة. إدارج الاحتياجات المتعلقة بالأسرة في النظام العام. تنظيم السلوكات في اتجاه ضمانه السلم الاجتماعي (التركيز على قيم الإحسان، التساكن، المودة...) التقسيم المتوازن للمهام والواجبات والأدوار بين الرجل والمرأة في مؤسسة الأسرة. تأكيد المكانة المحورية للمرأة في الأسرة. تحقيق المساواة في معناه النبيل: المساواة في الواجبات وليس فقط في الحقوق. ترجيح الحكمة في تدبير النزاعات بين الزوجين (الإحسان). من أجل خطوة بعيدة: تعزيز ثقافة الوقاية والوساطة وفي هذا الإطار تقترح الدكتورة ناجي رجاء مكاوي أن تمضي السياسة الأسرية في اتجاه إنشاء ودعم مراكز التوجيه والإرشاد الأسري لتقوم بدورها في تقديم الدعم والمتابعة لتعزيز تماسك الأسرة وحمايتها من التفكك لاسيما وأن الأرقام التي تكشف عنها وزارة العدل تظهر ضآلة نسبة حالات الوساطة سواء من طرف المحاكم أو الحكمين أو مجلس العائلة أو أنواع أخرى من الوساطات (6,693 في المائة سنة ,2006 و 8,512 في المائة سنة 2007 ) بالمقارنة مع ارتفاع طلبات الطلاق بجميع أنواعه (58237سنة 2006 و 73132 سنة 2007).