هناك مفارقة عجيبة لا نجد لها تفسيرا منطقيا يقبله العقل السليم، وهي متعلقة أساسا بذلك التناقض العجيب الذي يطبع تعامل بعض الأنظمة الإسلامية ومنها المغرب، مع شبكات ترويج المخدرات في مقابل تعاملها مع شبكات ترويج الخمور، فبالرغم من أن الجميع يعلم بأن الخمر قد حرمت بنصوص قطعية، وبأن المخدرات إنما حرمت بالقياس عليها، إلا أننا نجد أن جهود الدولة تكاد تقتصر فقط على محاصرة المخدرات، وهي جهود مشكورة ومقدرة، لكنها في الوقت نفسه تغض الطرف وتتغاضى عن ترويج الخمور، بل نجد أن للدولة يد في الإنتاج والتسويق وحتى الاستيراد من الخارج، بالرغم من أن لها نفس الأضرار وأكثر، بل هي أم الخبائث. إننا في الوقت الذي نقدر فيه الجهود المبذولة في محاربة المخدرات ومحاصرة تجارتها وملاحقة مروجيها والتقليص من مساحة زراعتها والتشديد في العقوبات على المتورطين في شبكات الاتجار فيها، فإننا نسجل بكل أسف، وأيضا بكل تعجب واستغراب تقاعسا، بل وخضوعا لمروجي الخمور، إلى درجة أنه حتى الرفع من قيمة الضريبة على الخمور، يواجه بالفيتو من طرف لوبيات الإنتاج والتسويق المتنفذة، ونتساءل عن سبب هذا التناقض العجيب الذي خلاصته: محاربة المخدرات والتغاضي عن المسكرات؟ فإذا كانت المخدرات تخدر العقول فإن المسكرات تغيبها تماما، وإذا كانت المخدرات تؤدي إلى الإدمان فإن الخمور كذلك، وإذا كانت الأولى تهدد الصحة العامة للمجتمع فإن الثانية بنفس القدر وأكثر، بحيث أكدت الدراسات العلمية التي أنجزت في هذا الصدد أن الإصابة بالسرطان في صفوف المدمنين على الخمر والتبغ، تصل إلى ما بين 65 في المائة و95 في المائة، أما من حيث التسبب في حوادث الطرق، فإن الخمر والمخدرات احتلا الرتبة الثانية خلال سنة 2007 حسب دراسة قامت بها لجنة الوقاية من حوادث السير، فضلا عن أن أكثر حوادث القتل بشاعة سببها الخمر، وأغلب حوادث الاغتصاب سببها الخمر، وأغلب حالات الشجار العائلي والطلاق وتشتت الأسر والعنف ضد النساء سببها الخمر، حتى أن وزير الداخلية صرح رسميا أمام البرلمان، أن السكر العلني أصبح يمثل 16% من مجموع الحالات الإجرامية في الوسط الحضري، ومع ذلك نجد أن هذه التجارة محمية ومرعية، فهل من تفسير؟ حين تطرح الأسئلة في البرلمان عن سر ذلك، يكون الجواب جاهزا بأن هذه الخمور موجهة للأجانب فقط وليس للمسلمين، مع العلم أن كل التقارير والإحصائيات تؤكد أن الإستراتيجية المعتمدة تركز بالأساس على ترويج معظم الإنتاج داخل المغرب وبين المغاربة، فمن أصل 35 مليون قنينة تم إنتاجها في المغرب السنة الماضية لم تصدر منها إلى الخارج إلا مليوني قنينة بما يعني أن البقية كلها توجهت للاستهلاك الداخلي، كما أنها تعمل على توسيع مجالها بشكل رهيب في كل مناسبة، وتعمل على تقريب الخمر من الناس، من خلال الأسواق الجديدة التي تفتتح في الأحياء، وفي كل مكان، حتى وصلوا إلى 60 ألف نقطة بيع، وذلك في الوقت الذي نجد فيه أن القانون المغربي يجرم تناول الخمور، ويمنع بيعها للمسلمين، وللقاصرين، وفي الأحياء، وفي الأماكن المجاورة للمدارس. إن هذا التناقض إنما يدل على فساد في المقاييس واختلال في الموازين، وهو لم يظهر فجأة أو في لحظة معينة، ولا نتيجة لقرار واحد، إنما هو مشكلة ثقافة غازية وقيم غريبة صيغت وعممت على المجتمعات العربية والإسلامية، وهي مخططات حيكت وبدأت منذ الحقبة الاستعمارية، وهي مستمرة إلى الآن، حيث لعبت وسائل الإعلام الغربية وتبعتها حتى العربية، الدور الكبير في صناعة الأذواق، حيث نجدها حينما تتكلم عن المخدرات تنعتها بالسموم وهذا جيد، ولكنها لا تفعل نفس الشيء مع الخمور، ونجدها كذلك حين تتكلم عن عصابات ترويج المخدرات، تسميهم بارونات وأباطرة المخدرات، ولكننا لا نراها تسمي مروجي الخمور بالأباطرة، ونفس الدور تلعبه دور السينما حينما نلاحظ كيف تصور جلسات المخدرات، وكيف تصور جلسات الخمر. وفي الختام فإننا إذ نحيي كل الجهود المبذولة لمحاربة تجارة المخدرات ومروجيها وكل من له علاقة بها، وإذ نشد على أيدي كل من يساهم في التوعية بمخاطرها على الصحة العامة وعقول الناس ودينهم وأنفسهم وأولادهم، سواء كانت جهات رسمية، أو شعبية وأهلية، أو مؤسسات مجتمع مدني، فإننا نريد لهذه الجهود أن تتوسع وتتضاعف وتتكامل في إطار خطة وطنية لحماية المجتمع من مخاطر وأضرار الخمور.