سؤال يلح على كل مسلم صائم طائع لله: وماذا بعد رمضان؟ ماذا بعد هذه السياحة الفريدة؟ وماذا بعد هذه التعب اللذيذ؟. لا بد لك بعد انتهاء هذه الرحلة الإيمانية أن تقف مع نفسك وقفة محاسبة. تراجع فيها نفسك، وتنقب فيها عن تقصيرك، انظر إلى ما قدمت: هل أديت الصيام كما أراد ربك؟ هل جئت بالأركان والواجبات؟ هل فعلت السنن والمستحبات؟ هل تركت المحرمات والمكروهات؟ أم تراك وقعت فيما قد نهيت عنه، وتركت ما أمرت به؟ أما إن كنت قد قصرت؛ فإن باب التوبة مفتوح، ودعاء المضطر لا يرد، فادع الله أن يجبر لك تقصيرك، ويغفر لك تفريطك. وإياك أن تظن أن تقصيرك لا يغتفر، فمهما عظم ذنبك فعفو ربك أعظم، وقد أحسن القائل: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت أن عفوك أعظم واعلم أخي الصائم أن اتهام النفس بالتقصير من آداب الصالحين، وشيم المخلصين، وديدن العابدين، ألم تسمع إلى ما قالته أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون: 60). قالت: هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله؟ فقال لها النبي: لا يا بنت أبي بكر، لا يا ابنة الصديق. ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل: (أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَها سَابِقُونَ) (المؤمنون:16). إنه الخوف من عدم القبول، والحذر من الطاعة، والرجاء في عفو الله، والطمع في قبول الحسنة. وقد قال بعض العارفين: متى رضيت نفسك وعملك لله، فاعلم أنه غير راض عنك. ومن عرف أن نفسه مأوى كل عيب وشر، وعمله عرضة لكل آفة ونقص، كيف يرضى لله نفسه وعمله؟. الاستمرار.. قبول ذكر ابن القيم رحمه الله في الداء والدواء: أن المعاصي تزرع أمثالها حتى يعز على العبد مفارقتها، والخروج منها. وقال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها ولا يزال العبد يألف المعاصي ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله عليه الشياطين فتؤزه أزا (انظر: الداء والدواء). وإذا كان هذا هو حال العبد في المعصية، فإن حاله في الطاعة كذلك. وقد كان من كلام السلف: علامة قبول الطاعة الطاعة بعدها. فإن وفقت لطاعة فهذه علامة قبول صيامك. وقد قال ربنا: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدى) (مريم:67). يقول ابن عطاء الله: من وجد ثمرة عمله عاجلا فهو دليل على وجود القبول آجلا. ويقول: وجدان ثمرات الطاعات عاجلا بشائر العاملين بوجود الجزاء عليها آجلا. وإن من مميزات الإسلام أنه دين عبادة مستمرة وطاعة دائمة، ولا تنتهي العبادة فيه بانتهاء شعيرة، أو الفراغ من فريضة. بل العبادة مستمرة مع الإنسان من لحظة تكليفه، إلى لحظة تكفينه، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99). بل العبودية كما يؤكد ابن القيم تستمر بعد الممات: بل عليه في البرزخ عبودية لما يسأله الملكان: من كان يعبد؟ وما يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلتمسان منه الإجابة. وعليه عبودية أخرى يوم القيامة، يوم يدعو الله الخلق كلهم إلى السجود فيسجد المؤمنون، ويبقى الكفار والمنافقون فلا يستطيعون السجود. فإذا دخلوا دار الثواب والعقاب انقطع التكليف هناك. وصارت عبودية أهل الثواب تسبيحا مقرونا بأنفاسهم لا يجدون له تعبا ولا نصبا. ومن هنا كان النبي صلى اله عليه وسلم يحذر من انقطاع العمل ويوضح أن: أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل (رواه البخاري). وحين دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها ووجد عندها امرأة سأل: من هذه؟ قالت: فلانة؛ تذكر من صلاتها، قال: مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا، قالت عائشة: وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه (رواه البخاري). إن الثبات على الطاعة بعد الصيام كما ذكرنا توفيق من الله، ومنة من الباري سبحانه. ولذا كان الصالحون يسألون الله الثبات وقد جاء في دعاء الراسخين في العلم: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) (آل عمران:78). وإذا كان هذا هو دعاء الراسخين فما بالنا نحن؟ فتأمل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لربه: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. نعم لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في دعائه: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. فقيل له: يا نبي الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا فقال م: نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل يقلبها كيف شاء ( رواه أحمد عن أنس). وكان صلى اله عليه وسلم إذا أقسم قال: لا ومقلب القلوب (رواه البخاري). ربنا تقبل أخي الحبيب؛ أما وقد أنهيت صيامك، وأتممت شهرك؛ فسل الله قبول طاعتك والزم الاستغفار فإنه ديدن الصالحين بعد كل طاعة، وإياك أن تقل: إنني لست في حاجة إلى استغفار بعد الطاعة، فهذا ظن خاطئ، وفهم قاصر. فقد يظن كثير من الناس أن الاستغفار إنما هو إثر معصية، أو وقوع في خطيئة، أو تقصير في واجب، أو وقوع في محذور، أو تنح عن الطريق المشروع، أو وقوع في حبائل الشيطان، بارتكاب صغيرة أو كبيرة، ولكن هذا فهم خاطئ وتصور قاصر. والحق أن العبد في حاجة إلي الاستغفار بعد الطاعة؛ كما هو في حاجة إلى الاستغفار بعد المعصية. هو محتاج إلى الاستغفار بعد الذكر والإحسان، كما أنه محتاج إلى الاستغفار بعد البعد والعصيان؛ فاحتياجه للاستغفار بعد المعصية ليغفرها الله له وليمحها الله من سيئاته، واحتياجه للاستغفار بعد الطاعة إنما ليتقبلها الله منه وليشكر لربه على أن وفقه مع من وفق من عباده الصالحين لمثل هذا الأمر. يقول ابن القيم: أرباب العزائم والبصائر أشد ما يكونون استغفارا عقب الطاعات لشهودهم تقصيرهم فيها، وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه، وأنه لولا الله لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية ولا رضيها لسيده. ويضرب ابن القيم أمثلة من الاستغفار بعد الطاعات؛ فيقول: وقد أمر الله تعالى وفده وحجاج بيته بأن يستغفروه عقب إفاضتهم من عرفات، وهو أجل المواقف وأفضلها: ( فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ* ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (البقرة: 199198). وبعد صلاة الليل ( وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ) (آل عمران: 17). قال الحسن: مدوا الصلاة إلى السحر ثم جلسوا يستغفرون الله عز وجل.