منذ أن كانت "إسرائيل" حلماً يراود الصهاينة، كانت أوغندا أحد الخيارات المطروحة لتحويل الحلم إلى واقع. وعندما تغلبت قوة الأسطورة بحسب تعبير غولدمان على كل المعطيات الأخرى التي ترجح كفة الخيار الإفريقي أو خيار أمريكا الجنوبية، لم يتخل العقل الصهيوني المخطط عن السيطرة على أوغندا، باعتبارها المسيطرة على مصدر مياه النيل. فرهان المياه يشكل رهاناً أساسياً في مستقبل المنطقة، كما أن التحكم بمنطقة منابع النيل يعني التحكم برقبة مصر والسودان. وبالأمس كان أفيغدور ليبرمان يوقع اتفاقاً بين "إسرائيل" ووزارة الطاقة المائية الأوغندية. قبل أسابيع كانت مصر تخوض معركتها في اجتماع الدول المطلة على مجرى النيل، بعد أن كان من المسلم به لعقود مضت أن الدولة العربية الكبرى هي الدولة الكبرى التي تتولى رئاسة هذه المنظمة المائية. ليبرمان لم يكتف بالتعليق على الاتفاق المائي، بل أعلن عن اهتمام "إسرائيل" بالتنمية في إفريقيا، ولا يأتي هذا الإعلان ليضيف شيئاً كبيراً لأن الجميع يعرف أن النفوذ "الإسرائيلي" في القارة السمراء يتمدد كالأخطبوط. تمدد يدفع إلى السؤال: وماذا لو لم تكن نصف الدول العربية، إفريقية في جزء منها؟ ماذا لو لم تكن إفريقيا بحاجة إلى العرب أكثر من أية جهة أخرى؟ وإذا ما كانت الاستقالة من الاهتمام بإفريقيا قد وسمت عصوراً مضت، فهل يجوز أن يستمر الأمر الآن وقد باتت "إسرائيل" تهدد الأمن المائي العربي؟ تهدده من البوابة الإفريقية وتهدده من البوابة اللبنانية، ومن بوابة الجولان خزان المياه الثري المتصل بطبريا، ومن بوابة حقول المياه الجوفية الغنية في الضفة الغربية. "الآن بدأت حرب المياه"! هذا العنوان خرجت به مجلة "الاكسبرس" الفرنسية غداة حرب الخليج عام 1991، وذلك في عدد خاص بالمياه في الشرق الأوسط. كان العنوان صحيحاً ولكنه غير دقيق تماماً، لأن حرب المياه كانت قد بدأت منذ وجد الكيان الصهيوني، وذلك ما لم يخف في كتابات مؤسسي الحركة الصهيونية ومن ثم الكيان. كما تحققت تجلياته في كل الأزمات المتواصلة، من سياسية وعسكرية، ولذلك كان الملف الخاص بالمياه في عملية السلام أكثر الملفات تعقيداً. غير أن "الاكسبرس" ربما كانت تعني بعنوانها ذاك أن حروب الأوجه الأخرى من الصراع، سياسية وعسكرية، قد حسمت بحرب العراق، ومثلها حسمت حرب الطاقة النفطية، وبالتالي فان ما سيتقدم إلى الواجهة هو وجه الحرب الاقتصادية وعلى رأسها حرب الطاقة المائية. وبما أننا نسمع ونشهد، هذه الأيام حراكاً غير عادي، في الإعلام وعلى الأرض، بخصوص الجولان المحتل، فان سؤالاً مركزياً يتشكل هنا حول الشق المتعلق بالمياه في أي ترتيب يخص المرتفعات. ترتيب يمكن أن نتوقعه من دون أن نعرف مجرياته، لأن الجميع قد صمتوا دهراً ونطقوا فجأة باسم الجولان: برنامج حي على الجزيرة، نرى ونسمع فيه أهل الجولان للمرة الأولى، كأنهم أهل الكهف وقد خرجوا إلى الأحياء. مهرجان أو مؤتمر في بيروت، مقالات في الصحف، ندوات وجمعيات، وأخيراً وليس آخراً وثيقة حول الانسحاب يتلقف "الإسرائيليون" سرها بين مكذب ومؤكد، ولا يظنن ساذج أنها وصلت إلى "معاريف" بالصدفة أو لمجرد تسويق كتاب لداني ياتوم، كما جاء في الأنباء. لا شك أن أحداً لا يتمنى إلا عودة الجولان إلى الوطن، ولكن لا بد أيضاً من التساؤل حول الثمن، ثمن لا يمكن للإسرائيليين ألا يضعوا المياه في صلبه، ولكن بأية صيغة؟