مما قد يعلمه العباد عن مكانة رمضان، فيقوى تشبتهم به وطمعهم في دوامه السنة كلها، ما يمدهم به من معارف عن حقيقة قدراتهم الذاتية، وما يمتلكه كل عبد من إمكانات وطاقات ذاتية يستطيع بها تغيير نفسه بنفسه ولن يحتاج إلى أحد من الخلق إلا في حدود التناصح الذي لاأثر له على نفس العبد إلا بعد إذنها وقبولها ورضاها به.. وما لم تأذن له يبقى يحوم حولها بدون جدوى، وربما أغمضت عيني إصرارها أو تهاونها عنه، فيفقد التناصح قوته ويبقى يضعف ويضعف حتى ينتهي بالتلاشي في ظلام النسيان. في رمضان (شهر الصيام) يكتشف العبد الصائم ظاهرا وباطنا أنه يقوم بأمور كثيرة كان ينظر إليها في غير رمضان أنها ثقيلة جدا على كاهل نفسه وقد يظنها فوق طاقته ولا شيء عليه بعدم الانشغال بمجاهدتها لتقويمها أو التخلص منها.. وغالبا ما يكون هذا الحكم عن خبرة وتجربة ومحاولات عديدة، يحاولها الإنسان مع نفسه خلال شهور السنة عدا رمضان ليخلصها من ضعفها ويحررها من أسرها، فيجد الأمر (فوق طاقته).. في رمضان يعجب العبد الصائم من نفسه.. فما كان بالأمس مستعصيا عليه حتى توهم استحالة تحققه، يصير في رمضان داخل استطاعته، ولا يجد معه مشقة العنت المسقطة للتكليف بالترخيص.. وإنما يجد مشقة التكليف التي هي الغذاء الباني للذات الإنسانية من مقام الطاعة والعبودية.. في رمضان يكتشف العبد الصائم أنه كان يطلب معالجة نفسه على غير منهج وأنه بناها خلال السنة بناء عشوائيا، لم يرجع فيه إلى تصميم هندسي وضعه خبير عليم.. وطبعا لكي يصحح أخطاء بنائه النفسي العشوائي، سيجد نفسه مطالبا إما بهدم كل الأبنية أو جلها أو بعضها. وما لم يفعل لن يستقيم له أمر نفسه وإصلاح أحوالها.. وكلما حاول عملية الهدم وإعادة البناء هاله حجم العملية وصعوبة تحققها، فينقلب يائسا من أي عملية إصلاح حقيقية وخصوصا إذا طال عليه الأمد وكبر سنه فتجده يردد مع المتخاذلين المثل المغربي: ((القرد الشارف ما تيتعلم)).. غير أنه يفاجأ في شهر رمضان أن الصيام يمده بخطط وبرامج ووسائل وتقنيات، تُسَّهل عليه عملية الهدم للأبنية العشوائية وتطهير النفس من ركامات خرائبها.. ثم البناء عليها وفق تصميم الهندسة النفسية الربانية. ويسأل نفسه متعجبا: كيف استطعت كل هذا في هذا شهر الصيام وهو شهر واحد وقد عجزت عنه في الشهور الأخرى وهي أحد عشر شهرا..؟ الإجابة ستأتي بتفصيل في الحلقات القادمة إن شاء الله . ولكن لا يفوتنا أن نؤكد ضرورة طرح سؤال آخر له منحى إيجابي وهو: كيف السبيل إلى الامتداد بهذه الاستطاعة النوعية خارج رمضان، ونعيش بها أو بقريب منها في باقي الشهور..؟