لا مفر من الاعتراف بأن العنف أصبح حالة ثقافية في المنطقة العربية، وأن الشطط الذي يمارسه بعض التيارات المتشددة باستخدام العنف على خلفية قناعات سياسية متوهمة، يوازيه عنف آخر بين المثقفين على مستوى الكلمة والفكرة والأسلوب. لقد كان الحديث موصولاً بيني وبين بعض الأصدقاء من الصحفيين العرب، حول ظاهرة تحوّل أي حوار ثقافي في المنطقة العربية إلى حالة من العنف الشديد بين المتحاورين، ولا يختلف الأمر في الخليج عن مصر عن الشام عن المغرب، وتساءل صاحبي الذي يقيم في عاصمة أوروبية عن مسوّغات هذا العنف، وشرح لي كيف أن هناك أكثر من وسيلة حضارية وهادئة ومؤثرة للتعبير عن الموقف المخالف أو المعترض أو حتى المحتج، ووجدتني مضطراً لكي أبذل وقتاً طويلاً لكي أوضح له خلفيات متشابكة ومتداخلة تؤدي في النهاية إلى انتشار "ثقافة العنف" حتى بين المثقفين والنخبة. فالحوار العادي والذي لا يستدعي كل هذا التشنج والعنف الكلامي والسلوكي، يأتي في سياق أجواء سياسية واجتماعية وثقافية يراها الأطراف المختلفة تآمرية وغير عادلة وغير نزيهة وغير شفافة، جعلت الجميع يفقد الثقة في القواعد العادية الحاكمة لأي خلاف متحضر أو عقلاني، وبالدرجة التي اعتاد فيها الأطراف جميعاً على أن الكلام الموضوعي الهادئ والمتزن لا يمكن أن يصل بفكرك ومظلمتك إلى من يهمهم الموضوع، ومن ثم أصبح هناك "وعي" مستبطن بأن بعض العنف ينفع، بل هو ضروري لكي يصل صوتك؛ فالمناخ السياسي والثقافي الذي اعتاد أصحابه وأطرافه على احترام الرأي الآخر وعلى احترام الكلمة، وحسن الاستماع، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل، واحترام القواعد الحاكمة في السياسة والاجتماع والأخلاق المشتركة. هذا المناخ الحضاري يشيع أجواءً من الثقة بين الجميع، ومن ثم تتسرب تلك الثقة إلى وعي الجميع، وتنعكس على كلماتهم وتعبيراتهم وحواراتهم، فتأتي الكلمات دقيقة وهادئة ورزينة وخلوقة ومتحضرة حتى لو كانت تحمل قسوة أو احتجاجاً. أما المناخ الثقافي الذي يغيب عنه هذا كله، فتجد أن الصوت فيه لا بد وأن يكون متوتراً وعالياً، وكلما تم تجاهلك ازداد علوّ صوتك، أنت تعلي من صوتك دائماً حتى يصل؛ لأن الآخرين لا يسمعونك إذا كنت هادئاً، فضلاً عن اعتياد الشوشرة على حديثك، فضلاً عن الاستهتار بكلماتك، فضلاً عن أنك تدرك أن المنطق ليس هو الحاكم في الموقف والحوار، وإنما هو جذب الانتباه، وهو لا يكون إلاّ بالصخب والعنف والتوتر والقسوة في الكلام والسلوك، ومن ثم عندما نبحث عن علاج لهذا العنف المشاهد في الحديث أو السلوك فعلينا أولاً أن نفكك "المناخ الثقافي" الذي ولّد هذا العنف وفرّخه، وأن نعالج أسبابه، وهذا الذي يحدث بصورة ما على المستوى الثقافي هو عينه الذي يحدث بصورة دموية ومروعة على المستوى القتالي والسياسي، مثل هذا الذي يحدث في العراق أو الشيشان أو فلسطين وغيرها. إن الاستهتار الذي تعاملت به القوات الأمريكية على سبيل المثال بالأرواح والدماء في أفغانستان والعراق، كما الاستهتار الذي تعامل به الروس مع أرواح البشر في الشيشان، كما الاستهتار الذي تعامل به العالم مع بحر الدماء الفلسطينية الذي انهمر في فلسطينالمحتلة بصفة شبه دورية، هذا الاستهتار المثير هو الذي أشاع مناخاً رهيباً من ثقافة العنف التي رخصت فيها الدماء، وهانت الأرواح وغاب المنطق. لقد لخصت سيدة بريطانية شابة أسلمت تلك المشاعر بقولها: منذ أن وعيت وعقلت وأنا أسمع أو أقرأ عن مذابح للمسلمين في كل مكان!! هذا الوعي المستبطن الذي لخصته السيدة الانجليزية المسلمة هو الذي يستبطنه الآن ملايين المسلمين حول العالم، وهو الذي يجعل هناك حالة من استبطان العنف، الذي ينفجر فجأة أحياناً بدون مقدمات، وربما أيضاً بدون منطق؛ لأن هناك ثقافة سائدة، صنعتها الغطرسة الغربية، صنعت تصوراً مغلوطاً يجعل العنف هو الطريق الأسهل لمن أراد أن يظهر مظلمته أو يوصل صوته للعالم. بطبيعة الحال هذه الثقافة تحتاج إلى جهد مضاعف من الحكماء والدعاة وأهل العلم لكي يتم احتواؤها والتخفيف من غلوائها، إلاّ أن العلاج الحاسم لها، والعون الأكيد لاحتوائها، وتجفيف منابعها إنما يأتي من هؤلاء الذين نشروا ثقافة العنف في العالم، بأن يوقفوا منطق الغطرسة، وأن يستمعوا إلى أنين المسلمين المعذبين والمستباحين في كل مكان، وأن يعملوا وفق متطلبات الإنسانية والعدالة، وليس وفق متطلبات الهيمنة. هذا هو السبيل الحقيقي والحاسم لوقف انتشار موجات العنف التي تتسع نيرانها في عالم اليوم بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية.