.. أحسّ ببرودة و رطوبة .. أتراه غُسِّل و كُفّن ؟ ! لا يدري ، و كلّ ما يدريه الآن ، أنه مسجّى .. مغطّى بثوب أبيض .. و روائح عبقة تحيط به ، و خلف السّتار همهمات و غمغمات .. أين هو ؟ ! كم الساعة ؟ في أيّ يوم ؟ و أيّة سنة ؟ الله أعلم . تملّكته حيرة مدمّرة ، و خوف مرعب . ينظر و يسمع ، لكنه لا يقدر على حركة و لا على كلام .. عاري الجسم ، سوى من قماش أبيض يلفّه من قدميه حتى قلّة رأسه ، كقماطة رضيع تماما .. فقد عاد كما ولدته أمّه ، إلا أنه مترع الرأس ، مثقلا بالهموم و الخطايا و الأحزان .. دوَّت حوله تكبيرات انخلع لها صدره .. يا ويْح أمّه ، أهي صلاة جنازة ؟ ! تكبير و دعاء .. ما فائدة الدمع و لا البكاء و لا الصراخ .. فهتف في أذنه هاتف : ــ إنك راحل يا عمر يا ابن ربيعة .. و كيف لا ، و قد تمادى إلى سمعه صوت الإمام و هو يقول : ــ الصلاة على جنازة ، و هو رجل .. لم يعد له اسم و لا لقب ، جرّد من كل شيء ؛ حتى من ملابسه و خواتمه و دمالجه الثمينة .. لم تغن عنه أمواله و لا معارفه و لا وجاهته بين الناس .. فاستوى في نعشه مسالما ، و تحرّك به الموكب المشيّع ، فصاح في حامليه أو خُيِّل له : ــ قفوا .. أرجوكم قفوا .. ردّوني إلى أهلي و بيتي .. هيهات .. ولّى إليه الصدى واهيا ، كأن لم يَفُهْ ببنت شفة . ودّع المدينة و الشوارع ، و هو فوق الأكتاف ، و كأنه لم يعمّرها بالأمس ماشيا .. سائقا .. صاخبا .. و ما هي إلاّ لحظات ، حتى تراءت له المقبرة ؛ مدينته الجديدة بهياكلها و مقابرها ؛ مدينة هادئة ساكنة ، سكانها مسالمون ، لا يعرفون التفاضل ، و لا هذا ابن فلان أو من طرف علاّن .. أو يعمل في كذا .. أو يملك كذا .. كلهم دخلوها بهيأة واحدة و بطبيعة واحدة . التفت خلفه ، فوجد جموع مشيّعيه ؛ أصدقاءه ، أقاربه و أحبّاءه .. و بعض المحسنين و المشفقين عليه . نظر جهة اليسار ، فبدت له أملاكه ؛ سياراته الفارعة ، و عماراته الشّاهقة .. كنوزه و تحفه النادرة ، خليلاته و مجالس شهوته و لذّته ، ثم انبرى جهة اليمين ، فلاح له وجه زوجه المفجوعة ، و محيّى أطفاله الضّعفاء .. و أمامه كتاب مركوم ، مسوّد ، ترامت أطرافه على مدّ البصر .. قفّ شعره ، و أيقن بالفاجعة ، و صوت هاتف حزين يمتدّ إلى سمعه المرهف ــ يا عبد الله ، زوجك تزوّجت ، و أطفالك تيتّموا .. و أموالك تقاسمها أعداؤك .. فانظر ماذا ترى .. نظر من حوله ، فلم يجد سوى ذلك الكتاب الأسود المتهرئ ؛ و الذي ظل يلازمه كظلّه . كانت أصوات الفؤوس و المجرفات ، تصل إلى أذنيه كمعزوفة مأتم ، تُنْبئه بالفناء و الأفول .. و منظر الغروب المطبق الحزين ، يزيد الجوّ كآبة و انقباضا .. فما هي إلاّ لحظات ، حتى انتشلته أذرع قويّة ، كعصفور جريح ، سرعان ما أدلته في حفرة باردة ، اقشعرّ لها بدنه .. ثم ها هم يُحْكمون عليه الإغلاق ، و يسدّون الثغرات .. و كأنه سجين ، أو موبوء يخشى خروجه و ظهوره .. و للزّيادة في الاطمئنان ، أهالوا عليه ما تبقّى من التراب و الحجارة .. فعاد إليه الهاتف مناديا : ــ حيل بينك و بينهم يا ابن ربيعة ، و هاهم يغسلون أياديهم فوق قبرك .. حتى غبارك لا يودّون إرجاعه معهم ، و بالأحرى شخصك أو ذكرك .. و ها هم يعودون من دونك ، ألا تسمعهم ؟ فأصغى السمع ، و إذا بوقع نعالهم ، و هم يبتعدون عنه .. حملوا نفوسهم و أمتعتهم ؛ رؤوسهم و مشاعرهم .. فؤوسهم و مجارفهم .. و عادوا من حيث أتوا .. تركوه وحيدا ، و لا أنيس له ، سوى الصمت . تململ في حفرته الباردة ، تحسّس أطرافه ليتأكّد من نفحة الوجود .. أينما التفت وجد حائطا من تراب و أحجارا مسنّنة ؛ يلامسه و يلفّه يمينا و يسارا ؛ من رأسه حتى قدميه .. لا يستطيع أن يتحرّك ، وجهته واحدة ؛ كسجين في حبس انفرادي . لسعته برودة سامة ، سرعان ما انتشرت في سائر جسده . تذكّر فراشه الناعم الوثير ، و أثاث بيته المستورد ، الذي صُنِع خصّيصا له ، و تحت الطّلب . ركبه خوف مرعب .. و هذا الظلام الدّامس يقضّ مضجعه ؛ أصوات و همهمات ، و أعين برّاقة تنظر إليه ؛ أهي الدّيدان تزحف نحوه .. و بعد لحظات سيصبح لحمه أكلتها المفضّلة ؟؟ ارتعدت فرائسه ، و ضاقت أنفاسه .. انحبس الهواء داخل رئتيه ، و بدأ ينكتم كغريق ، ابتلعته أمواج يمّ سحيق .. فصاح بكل قواه صيحة اهتزّت لها أرجاء قبره : ــ يا رب .. ! ! .. و إذا برجلين يلبسان البياض ، يقعدانه برفق .. زاد روعه و ظلّ ينتظر السؤال .. فهل يستطيع جوابا ؟ ! إنه لا يذكر حتى اسمه . توزّعته الحيرة كمن تتخطفه الطير ؛ ارتفعت دقّات قلبه ، جفّ ريقه ، و اغرورقت عيناه ، و إذا بصوت هامس يقول له : ــ سلامتك ، لقد نجوت من موت محقّق .. .. سرت قشعريرة فائرة في سائر جسده ، فأعاد الإصغاء : ــ كُتب لك عمر جديد يا عمر .. ! ! .. لم يكد يصدّق ، أبعد الموت موت ؟ ! ظلّ مشدوها بين الحقيقة و الخيال ؛ ما زالت الأشباح تتراءى بين عينيه الدامعتين و شيئا فشيئا ، بدأت مصابيح الحجرة تتّضح ؛ ملامحها جدرانها ، شخوصها و أسرّتها .. تحسّس أطرافه ليتأكّد .. لا مجال لشكّ ؛ إنه بحجرة العناية المركزة لا محالة.. ! فأجهش ببكاء ممزوج بفرحة غامرة : ــ حمدا لله .. حمدا لله .. ظنّ الطبيب أنه يبكي حزنا على ساقه التي بُتِرَت من جراّء الحادث ، و لكنه ، في الأصل ، كان يبكي مما رأى و سمع .