وما هي اذن اهم معوقات هيكلة الحقل الديني ؟ أعظم ما يعيق نجاح المشروع في نظري، هو أزمة الثقة الموجودة لدى والمواطن، وهي أزمة يصعب رفعها في ظل استفحال الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، ومن ثم فإن الخطيب أو الواعظ إذا صعد المنبر ليدافع عن التوجهات الحكومية، أو تجاهل في خطابه مشاكل المواطن وهمومه، فحتما سيسقط في عيون المستمعين، ولن يجدوا فرقا بينه وبين مذيع الأخبار على القناة الأولى، فلن يكون له أثر لأن التأطير الديني يحتاج إلى سلطة معنوية يملكها الخطيب أو الواعظ، وإلى تأثير ينفذ به إلى قلوب المؤطرين، ولهذا كلما كان الخطيب حرا مستقلا كلما كان التجاوب معه أكثر وأعظم، ولهذا في نظري الحل لمواجهة الغلو والتطرف ليس هو ضبط الحقل الديني، وإنما القيام بإصلاحات حقيقية تتناسب مع دين الدولة الرسمي، وتتلاءم مع تاريخ هذا البلد وأصالته وعراقته، ثم بعد ذلك فسح المجال لكل من توفرت فيه شروط الأهلية، ليمارس دوره حسب الضوابط والشروط التي وضعها أهل العلم. هل ساير الحقل الاعلامي تحول الصحوة التي اشرت إليها؟ على المستوى الرسمي يظهر اعتناء الإعلام بالشأن الديني، سواء من خلال مسابقات تجويد القرآن الكريم، أو من خلال إنشاء قناة إذاعية وأخرى فضائية مرئية، بالرغم من إيجابية هذه الخطوة، إلا أنها تبقى دون طموحنا وطموح الفئات الشعبية والمتطلعة للإجابة على تساؤلاتها عبر القنوات الدينية، ولا شك أن الإذاعة أفضل حالا من الفضائية، التي تكرر النسبة الغالبة من برامجها، فضلا عن الرتابة وما تجلبه من ملل، مع غياب البرامج المباشرة التي تمنح المشاهدة حيوية ومتعة، فهل يتصور أحد أن بإمكان هذه القناة أن تنافس القنوات الإسلامية التي تبث من مصر أو الجزيرة العربية؟ في نظركم لما هذا الاهتمام الاستثنائي للدولة بالمواسم والطرق الصوفية؟ الدعم والتشجيع للمواسم التي تقام على أضرحة الأولياء، مع ما يكون عندها من قبورية وسحر وشعوذة، يندرج في إطار تشجيع التصوف المغالي، وكل ذلك بحجة ضرب التيار السلفي، ولاشك في مجانبة هذا المسلك للصواب، فالغلو لا يعالج بالغلو، فإذا كانت بعض التيارات السلفية قد غالت في كثير من المفاهيم، وهذا حق أؤكده وأقرره، فمعالجة هذا الغلو لا يكون بتشجيع الخرافة ودعم القبورية والشعوذة، وإنما الغلو يعالج بالاعتدال، والاعتدال في هذا الباب هو الدعوة إلى التصوف النقي، المجرد عن الغلو والشطط، المعتني بتربية القلوب وتهذيبها، وفق كتاب الله تعالى وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وما كان عليه أئمة هذا الفن الكبار، من أمثال الفضيل بن عياض وبشر الحافي وسهل بن عبد الله التستري، بل والإمام الجنيد إمام المغاربة في علم السلوك، فبمثل هذا المنهج الصوفي المعتدل نعالج الغلو في هذا الباب، ولا يمكن معالجة الغلو بغلو مقابل. انتم تؤكدون على اعتدالكم وبراءتكم من العنف فمن يقف ضدكم ؟ ولمصلحة من؟ بكل أسف، هناك تحالف بين بعض الجهات في الدولة، وبين التيار الاستئصالي المتطرف، وإن كان وجود هذا التيار المتطرف قديما، فإن الجديد هو هذا التحالف بينه وبين بعض الجهات الرسمية، مما ضيق الخناق على العلماء والدعاة والحركة الإسلامية عموما، وقد كانت نتائج هذا التحالف سيئة وكارثية، لأن هذا التيار لا يقبل بالآخر، ولا يحب أن يعبر الآخر عن رأيه، أو يفصح عن وجهة نظره، بل يريد ألا نرى إلا ما يرى، فمشكلته ليست مع ما سمي بـ بالإرهاب أوالعنف أوالغلو، مشكلته مع كل من يخالفه من فكر حتى و لو كان غير إسلامي، وإن كانت معركته الكبرى مع الإسلاميين، بكل أطيافهم وألوانهم، وقد كان من نتائج هذا التحالف أننا رأينا حين استنكر خطيب الجمعة الرسمي ، ما يقع من انحراف وعري على الشواطئ أيام الصيف، وهو أمر لازلنا منذ فتحنا أعيننا على الدنيا، نسمع النكير عليه من كل الخطباء، والدعاة و المربين، فتقوم الدنيا ولا تقعد، ويساءل الخطيب مساءلة شديدة على إنكاره، وتشترك وسائل الإعلام الرسمية في هذه الحملة الهوجاء، لمجرد أن الخطيب استنكر أمرا يستنكره العامة من الناس؛ بله الأئمة والخطباء والدعاة، ولولا هذا التيار المتطرف لما كان معنا جملة من المشايخ وطلبة العلم قابعين بهذه السجون، بهذه الأحكام المغلظة، وبهذه التهم التي نبرأ منها أمام الله تعالى قبل البشر، فهذا التيار هو الذي حرض علينا وألب وشوه سمعتنا، وحرف مقاصد دعوتنا، ولولا هذا التيار ما كان لوسائل الإعلام أن تستغل فتوى قديمة في مسألة فقهية لأستاذ جامعي وشيخ عرف واشتهر بولائه للسلطة، لتغلق بذلك العشرات من دور القرآن، والتي كان لها دور كبير لا ينكره إلا جاحد، في تربية الناشئة وتعليمهم كتاب الله تعالى وسنة نبيه ـ صلى الله عليه و سلم ـ وتلقينهم مبادئ الدين وقواعده الأساسية، فما ذنب هؤلاء حتى لو كان الشيخ أخطأ في فتواه أو جانب الصواب؟ ما هي أهم التحولات التي حدتث داخل الجسم الحركي الإسلامي؟ على المستوى الحركي والدعوي، رصدت جملة من التحولات في هذا العقد الأخير، و لا أتحدث طبعا عما عرفه هذا المستوى من تحول على صعيد العالم الإسلامي، و إنما ما رصدته بخصوص بلادنا فقط، رغم أن بعض التحولات قد تكون لها أسباب خارجية، أو تكون انعكاسا لتجاذبات فكرية مشرقية، فمثلا على المستوى الفكري، لا يستطيع أحد أن ينكر ما تعرض له التيار السلفي من زعزعة حتى في كثير من ثوابته، فهذه القضية أسبابها أو أغلب أسبابها ليست مغربية محضة، فأحداث الحادي عشر من سبتمبر، و الحملة التي تعرض لها هذا التيار بالجزيرة العربية وغير ذلك من الأسباب هي التي أنتجت هذه الخلخلة، زد على ذلك أن بداية ظهور هذه الموجة من المراجعات أو إعادة النظر في بعض المفاهيم، أو الجرأة في بعض المواضيع التي كانت محظورة، كل ذلك بدأ في المشرق، قبل أن تصل رياحه لبلادنا، و عموما أردت فقط الإشارة إلى هذه النقطة، و لا أريد التفصيل فيها الآن، لأن الحديث فيها يجذبني و لي به شديد عناية، مما سيخرجنا عن أصل الموضوع. و مما أرصده في هذا الباب انخراط الحركة الإسلامية في المجال الرسمي بشكل أوسع، بعد أن كنا قديما نشهد صراعا و تجاذبا بين الحركة الإسلامية و بين المؤسسة الدينية الرسمية، و كان الالتحام بينها يبدو محالا،لاختلاف التوجه و المنطلق، و لهذا ليس غريبا أن ينخرط علماء حركة التوحيد و الإصلاح في هذا السياق، لما يرونه منذ القدم من ضرورة اقتحام كل الأبواب، و عدم اتباع سياسة الكرسي الفارغ، و هو اجتهاد له حظه من النظر، و لكن الغريب هو انخراط أساتذة و مشايخ ذوي فكر سلفي محض، تحت عباءة مؤسسة تتخذ من العقيدة الأشعرية مرجعا ومرتكزا لا تقبل فيه اللف والدوران، علما أن بعض هؤلاء المشايخ لهم مواقف حد سلبية من العقيدة الأشعرية، بل يبلغ بهم الغلو إلى اعتبار هذه الطائفة السنية فرقة ضلال و بدعة ـ و العياذ بالله ـ و أنا هنا أرصد فقط، و لا يعني استنكاري لهذا الإندماج و الإنسجام، فلا شك أن له من الفوائد والمصالح ما دفعهم لذلك، و عموما فبالنسبة لي كل من كان مخلصا لله تعالى في مقصده، مجتهدا في إصابة الحق في عمله، ليس له مني إلا الدعاء بالتوفيق و السداد. و على ذكر التيار السلفي، فإن مما أرصده أيضا التطور الذي عرفته بعض الاتجاهات السلفية ببلادنا، و التي كنا ننكر عليها قديما اشتغالها بالفرعيات، و هدر كل طاقتها في مسائل يسع فيها الخلاف، مع التقصير في الأولويات و التي من أهمها الدفاع عن الإسلام، و الاشتغال بالتيارات التي تعمل على مسخ الهوية، و على فصل الارتباط بين الناس و بين دينهم و قضايا أمتهم، اليوم ـ و لله الحمد ـ نشهد صحوة لهذا التيار، و شدة اعتناء منه بهذه الأبواب، أطالع أحيانا جريدة السبيل فأتعجب لذلك النفس العالي في دحض شبهات المشككين، و تلك الحماسة و الحرقة في تناول قضايا المسلمين،و سواء اتفقت أو اختلفت مع إخوتي هؤلاء في بعض الفرعيات، فلا يسعني إلا تسجيل هذا التطور بكل إيجابية. مما أرصده أيضا على هذا المستوى، تراجع الحركة الإسلامية وسط الشارع المغربي، طبعا ليس لدي من المعطيات و الإحصائيات ما يجعلني أثبت ذلك بشكل دقيق، لكني ألتقط بعض الإشارات، الدالة على ذلك، مما يجعل الحركة الإسلامية عموما مطالبة بمراجعة أوراقها، لتقف على مواطن الخلل، و على العراقيل و العوائق التي تمنعها دون بلوغ أهدافها و غاياتها. أما حركة العدل و الإحسان فلا أظن أن أحدا يخالفني في انطفاء ذلك التوهج الذي عرفته الجماعة قبل سنوات، بل أصبح صوتهم خافتا بعد قصة رؤى 2006، و كأنهم أصابهم الحرج أو الإحباط لما مرت تلك السنة، و لم ير الناس ما يستحق الاهتمام لا محليا و لا دوليا، دون أن ننسى أن بعض الانتقادات اللاذعة التي تلقتها الحركة من طرف بعض علمائها و أخيارها كان له أيضا دور في هذا التراجع، و عموما لابد لهذه الحركة المباركة، أن تقف وقفة صدق لتراجع نفسها، و تقيم عملها، و تعمل على استدراك ما فاتها، حتى تستقبل العشر القادمة ببرامج فعالة و مثمرة على كل المستويات.