تعتبر قضية الفن اليوم ببلادنا من أهم القضايا الاجتماعية والثقافية التي تؤرق بال المتتبعين بسبب ما يعرفه المجال الفني من تبعية غربية وفوضى وخروج عن القيم المغربية الأصيلة باسم الانفتاح والحرية، مما يشكل خطرا ليس فقط على الأجيال المقبلة بل وعلى كينونتهم وهويتهم. ذلك أن الفن بطبيعته مجاله الوجدان، والوجدان يؤثر في السلوك والعادات والاتجاهات الفكرية والقيم الروحية ويؤثر كذلك في العلاقات الفردية والاجتماعية. هذا يجعلنا نثير السؤال التالي: هل نتوفر على سياسة فنية واضحة المعالم تمكننا من التمييز بين الانفتاح والاستلاب؟ الاستلاب الفني مما لا شك فيه أن الفن حاضر اليوم بقوة في جل المجتمعات الإنسانية، كما أن المنتجات الفنية تنتشر بسرعة فائقة بسبب ثورة الاتصالات المتسارعة التي بلغ حجم الاستثمار الدولي فيها إنتاجا وتسويقا ما يزيد عن 3 تريليون دولار حسب إحصائيات السنوات الأخيرة. بمعنى أن العالم اليوم يعيش في حالة تأثر وتأثير في ما يخص المجال الفني، وهذا ما عبر عنه الباحث في التراث المغربي عبد المجيد فنيش بقوله: الآن؛ العالم أصبح قرية صغيرة، وليس هناك من يدعي أنه منفتح أوغير منفتح بحكم أنك إذا رفضت أن تكون منفتحا فإن العالم يأتي إليك، فبدل أن تنفتح يسبقك فعل الاقتحام، يجب أن نؤمن بهذه الحقيقة. لكن هناك حقيقة أخرى يقرها الباحث فنيش وهي أن: الانفتاح أصبح الآن شماعة يعلق عليها الكثير من الأشياء. لذا، نخشى أن يتحول الانفتاح إلى استلاب وإلى اغتراب في الوطن. من هنا ينبغي، في نظره، التمييز بين الانفتاح والاستلاب الذي يعني أن نسقط كليا في أحضان الآخر، وكذلك بين الاستشراق الذي يعني السقوط في كل ما هو شرقي. شرق لطالما عانى الفنانون المغاربة من هيمنته على الساحة الفنية المغربية، كما عبر عن ذلك الملحن شكيب العاصمي في تصريح له لـ>التجديد<؛ مبينا أن المشرقيين غزوا سوقنا الفني، ولذا يصعب على المستمع المغربي أن يعرف الإنتاج المغربي الجديد، عكس ما هو في الشرق هناك، فهناك قنوات خاصة بالأعمال الفنية لكي يتعرف الناس على الجديد، مضيفا: بعض القنوات المغربية تروج لسهرات لا علاقة لها بالأغنية الجديدة، في وقت يريد فيه الجمهور أن يستمع إلى الأغنية الجميلة والقصائد.... من هنا تأتي دعوة العاصمي إلى ضرورة إنشاء قنوات خاصة بالأغنية المغربية حتى تكون حسب قوله همزة وصل بين ما كان وسيكون. المهرجانات الفنية ما قاله العاصمي يعبر بوضوح عن رغبة في التشبث والحفاظ على مقومات الفن المغربي وعلى هويته أمام الابتذال الذي يطغى اليوم على الساحة الفنية، خصوصا مع زحف مجموعة من المهرجانات الفنية التي أصبحت صورة مطابقة للأصل لمهرجانات غربية حاملة لقيم غريبة على مجتمعنا وقيمنا؛ تتمثل في الفوضى والحرية الجنسية... في هذا السياق يقول الباحث عبد المجيد فنيش: من حق الجميع أن ينظم مهرجانات بتصورات مختلفة ومتباينة، وهذا تضمنه الدساتير والمواثيق والأعراف الإنسانية لتحقيق التعدد والتنوع، لكن في حدود معينة. فلا يمكننا أن نفهم من التعدد والتنوع وتلبية الأذواق المختلفة أنه يمكن تمرير أي شيء مهما كلف هذا الشيء من إساءة إلى أعرافنا وأخلاقنا في حدودها الدنيا. والأعراف هنا ليس السلوك اليومي والفضيلة، بل هناك الأعراف الفنية. ويتساءل فنيش: إذا كانت هذه المهرجانات لا تخدم هذه المقومات الفنية للبلد فماذا يمكنها أن تخدم؟ جوابا على هذا السؤال يقول: عندما نفكر في تنظيم مهرجانات يجب أن لا نكون فيه مجرد وكالات للتنظيم، وإنما فاعلين في إحداث التصورات لهذه المهرجانات، بمعنى أن هناك الكثير ممن يملكون إمكانيات يمكن أن ينظموا بها حفلات خاصة في بيوتاتهم وأعراسهم وأن يحضروا إليها أكبر الفنانين العالميين. لكن بالنسبة للمهرجانات فإن الأمر يختلف يرى فنيش، لأننا: أمام مال عام في أغلب الحالات، والمال العام الذي تنظم به هذه المهرجانات مال للجميع، ولذلك يجب أن ينخرط في مهرجانات تخدم قضايا الجميع، وتكون متنوعة. بعبارة أخرى أن هذا المال يجب استثماره في أفق وطني كامل، ومن ثم قطع الطريق على الذين يبحثون عن الربح المادي فقط من خلال تنظيم المهرجانات ولو على حساب ثقافة مجتمعهم. سياسة فنية وطنية لتداول هذه النقطة ثمة سؤال يفرض نفسه، ماذا نريد من الفنون عموما؟ هل مجرد فرجات للتسلية وضياع الوقت أم الترفيه وصنع ذوق فني معين؟ بمعنى هل نتوفر على استراتيجية فنية ببلادنا؟ للإجابة على ذلك يقول فنيش: الإشكالية لها علاقة بالذوق والذوق ليس مجرد قرار يتخذ، بل هو إحساس ووجدان ونتيجة أوضاع ثقافية واجتماعية واقتصادية ونفسية وغيرها. بمعنى أننا الآن في أمس الحاجة إلى هذه الاستراتيجية الثقافية لمعرفة ماذا نريد من هذه الفنون، سواء التي ننتجها أوالتي نستوردها وننظم لها المهرجانات. وغياب استراتيجية فنية يشكل خطورة، لأن الباب سيظل مفتوحا على مصراعيه باسم الحرية التي ترمز إلى المزيد من الاستلاب في المجال الفني عوض الانفتاح المتوازن. وكحل لهذه لإشكالية يرى فنيش: أن الجواب يصنعه الجميع(دولة وهيئات مدنية وفنانين ومثقفين) في إطار حوار وطني، بمعنى أننا ونحن نعيش تحولات كبيرة ومجموعة من المؤشرات الإيجابية نحتاج إلى مجلس وطني أعلى للثقافة، إضافة إلى مجالس جهوية للثقافة والفنون. في ظل هذا المجلس يمكن أن توضع هذه الإستراتيجية الثقافية والتي يجب أن تنعكس مباشرة على أنشطتنا.