كان مصطلح البلطجة مصطلحا غريبا عن قاموسنا وسلوكنا السياسي. كان هذا المصطلح مرتبطا في أذهاننا دوما بـالتجربة المصرية التي نقلته من عالم المسلسلات الدرامية إلى عالم الدراما السياسية أو السياسة الدرامية. لم يكن لمصطلح البلطجة وجود في دارجتنا المغربية ولا في لغتنا العربية، ولم يكن له وجود في لغتنا الصحافية والسياسية. لكنه دخل إلى قاموس اللغة العربية عبر البوابة السياسية المصرية كما دخل مصطلح انتفاضة إلى اللغات العالمية من بوابة الصمود الفلسطيني، مع الاعتذار للانتفاضة، ولله في خلقه شؤون. انتقل مصطلح البلطجة من ساحة الدراما إلى ساحة السياسة من مصر أم الدنيا إلى أبناء أم الدنيا في التراجع والانقلاب على بعض المكتسبات التي تحققت في المجال الحقوقي والسياسي. ونحن في المغرب من هؤلاء الأبناء الأوفياء الذين اختاروا السيناريو التراجعي كما يقول التقرير الخمسيني. أما عن حكاية البلطجة السياسية المصرية فلا نحتاج فيها إلي كثير رواية. فمن اعتقال المرشحين المحتملين قبيل الحملات الانتخابية، وإراحتهم من وجع رأس المنافسة السياسية والخطب والأسفار، والنضالات المريرة من أجل حماية صوت المواطن، إلى اعتراض سبيل المصوتين إما من قبل أجهزة النظام أومن خلال العنف الذي تمارسه على المواطنين، واعتراض سبيلهم من أجل منعهم من أداء واجبهم الوطني، وهي صور بدائية للبلطجة إلى صورة راقية من البلطجة لم تعتمد اللغة المتخلفة للسكاكين والعصي والعنف المادي، وإنما صورة حداثية وأصيلة في نفس الوقت لم يسبق إليها إنس قبلهم ولا جان ألا وهي ـ وبكل بساطة ـ حشو صناديق الاقتراع بعشرات بطائق التصويت كما نقلت ذلك كاميرا هاتف جوال لبلطجي متحضر وهو يمارس صورة راقية من التزوير. في الاستحقاقات التي عرفتها بلادنا في السنوات الأخيرة بدأت تطفو على السطح تدريجيا ظاهرة البلطجة في الانتخابات، بأشكالها البدائية والمتحضرة، لكنها ازدادت تفاقما في الانتخابات الأخيرة. ففي الوقت الذي تراجعت فيه بشكل لافت مشاركة المناضلين الحزبيين في الحملات الانتخابية، تزايدت في المقابل مشاركة مئات الشباب من العاطلين ممن أصبحت الحملة الانتخابية فيه عملا موسميا. قد نجد عذرا لبعض هؤلاء الشباب الذين أفنوا عمرهم في الحلم بفرصة شغل أو توظيف بعيد عن الزيونية أو المحسوبية، ويشتغلون مكرهين ولسان حالهم يقول: قلوبنا مع علي وسيوفنا مع معاوية، أو بصورة أخرى أجسادنا مع المفسدين وقلوبنا وأصواتنا مع المصلحين. لكن المخيف أن أغلب من أصبح يوظف من قبل بعض المرشحين فئة من ذوي السوابق الإجرامية أو من مدمني المخدرات ممن ليس لديهم أدنى تمييز بين حملة انتخابية تنافسية وبين صراع نفوذ بين أباطرة للمخدرات على حي من أحياء المدينة، أو بين عصابات متخصصة في السرقة أو الجريمة المنظمة. الحملة الانتخابية عند هذا الصنف الأخير لم تعد وسائلها هي المنشورات والخطب والشعارات والأناشيد الحماسية والمسيرات الحضارية الحاشدة، وإنما أصبحت أسلحتها السكاكين والهراوات، وأصبحت حوافز المشاركة فيها، فضلا عن الأجور اليومية المنتظمة خلال الحملة وقبلها، بونات للتزود بقنيات الخمور وكانيتات الجعة التي يصطف حاملوها عشية كل يوم في طوابير طويلة في الساحات الكبرى أمام الشبابيك لتلقي مقابل حملتهم. الحملة الانتخابية يوم التصويت وفي مرحلة التحضير للتحالفات وجلسات التصويت لاختيار مكاتب المجالس تحولت كلها في كثير من الأحيان إلى عمليات بلطجة حقيقية بدائية، حيث عرفت هذه المراحل اعتداءات بالسكاكين على مرشحين وأنصار للوائح منافسة واقتحاما لمحلات الاقتراع، وتكسير الصناديق الزجاجية، وتعطيل العمليات الانتخابية على أمل أن يتحرك بيدق من مكانه إلى مكان آخر في لعبة الداما بالبخوش، ناهيك عن تهريب المرشحين وقطع صلاتهم بعائلاتهم ومصادرة هواتفهم. لكن ما هو أسوأ من هذه البلطجة هو البلطجة التي مارسها أشخاص نافدون في حزب التراكتور الذي استخدم كل ترسانة نفوذه داخل مستويات مختلفة من السلطة لتخريب التحالفات، وخاصة التحالفات التي نجح في إقامتها في عدة مدن كبرى. خطورة هذه البلطجة لم تقف عند استخدام العنف المادي الذي كان للمتعاونين مع التراكتور نصيب كبيرفيه، ولكن تعداه إلى عنف رمزي باستخدام سلاح عدم رضا السلطات العليا على هذا التحالف أو ذاك والادعاء بوجود أوامر سامية في الموضوع، والأخطر من ذلك تحريك أجهزة أمنية وضريبية للتهديد بفتح ملفات بعض المستشارين. وهكذا فبعد البلطجة المعنوية القائمة على نوع جديد من العنف السياسي الرمزي الذي يستخدم دعوى القرب من الملك في تشكيل فريق نيابي ثم حزب سياسي بسرعة ضوئية، ثم اكتساح الانتخابات الجماعية في العالم القروي ترشيحا وتصويتا، وما لذلك من دلالة في الاعتماد على النفوذ وشبكة العلاقات السابقة في مختلف مستويات الإدارة الترابية، تأتي بلطجة من نوع آخر لإرباك التحالفات التي نجح حزب العدالة والتنمية في بنائها في المدن الكبري، والتي تؤكد من جديد أن الحزب هو القوة السياسية الأولى، وأن المنهجية الديمقراطية تقتضي أن يشرف على تسيير مجالسها يتناسب مع حجم الثقة التي حازها. إنها بلطجة أصيلة، إنها بلطجة معاصرة، لكنها تستخدم نوعا خطيرا من العنف الذي يستخدم كذبا ويروج أن الإرادة الملكية العليا هي جزء من لعبة التحالفات في المدن. آن الآوان للعبة استخدام رموز الدولة في لعب انتخابية حقيرة خاصة أن تتوقف، آن الآوان للكف عن الإساءة إلى رموز الدولة واستخدامها في لعبة سياسية قذرة لأنها تعتبر أسوأ صورة من صور البلطجة.