كتاب إمامة الأمة الذي أصدره الأستاذ عبد السلام ياسين حديثا، وإن جاء متأخرا عن وقت تأليفه بحوالي ثلاثة عقود، إلا أنه يأخذ موقعه ضمن مشروعه النظري، ويغطي بالتنظير مرحلة وسيطة الجماعة اليوم، وبين الوصول إلى الحكم، وهي التي حاول في هذا الكتاب تسليط الضوء عليها، وتفصيل شروط هذه المرحلة وأولوياتها والمهام المطروحة على الجماعة فيها وفي مقدمتها إمامة الأمة وترشيدها وتوجيهها وتجنيدها لمرحلة القومة. لكن اهتمام الكتاب بتفصيل شروط هذه المرحلة وأولوياتها لم يمنع المؤلف - كعادته في كل كتبه -من طرح أفكاره ورؤاه حول ما بعد القومة، أي دولة القرآن، وطبيعتها، والأسس التي تقوم عليها ورجالاتها والشروط التي ينبغي مراعاتها في اصطفائهم، وأهم العوائق التي ستواجه مسيرة هذه الدولة، ومنهجية التعامل مع هذه العوائق، والشروط التي ينبغي أن تتوفر في رجالات الدعوة والدولة على السواء لمعالجة حالات النكوص والمقاومة التي تبديها في العادة الجيوب المناهضة للتغيير، كما يطرح رؤيته للدولة الإسلامية في محيطها الدولي، وموقفها من المنظمات الدولية القائمة، ورؤيتها الاستراتيجية بهذا الخصوص. مركزية الضعفاء في مشروع القومة يمكن أن نعتبر ما أدرجه الأستاذ عبد السلام ياسين حول مفهوم السواد الأعظم، وعامة الأمة، وموقعها في مشروع التغيير هو الجديد الذي يحمله هذا الكتاب بالقياس إلى مشروعه النظري الذي بسطه في كتبه السابقة، فإذا كان المنهاج النبوي وضع الإطار النظري للقومة (التربية والتنظيم والزحف) وحدد بشكل واضح الخط الاستراتيجي للجماعة، وإذا كان كتابه نظرات في الفقه والتاريخ أصل لهذا الخط من خلال قراءة وتوجيه النصوص الشرعية بخصوص الخروج على الحاكم، وقدم رؤيته النقدية للنظرية السياسية السنية، والمنهجية الأصولية المقاصدية المؤسسة حسب تصوره على مبدأ الحفاظية، فإن هذا الكتاب يعتبر بمثابة استكمال ما أسس له نظريا في كتابه الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية بخصوص موقع الضعفاء والمحرومين والمظلومين في مشروعه النظري، وكيفية استثمار رصيد غضب هذه الفئات ووضعه في خدمة مشروع القومة. الجديد في هذا الكتاب، هو تأصيله لمحورية الرهان على السواد الأعظم في مشروعه النظري، وعدم فاعلية الاعتماد على النخبة أو الخاصة. بيد أن الفرق بين ما يطرحه هذا الكتاب، وما ورد من تأصيل جاء في سياق السجال مع الأطروحة الماركسية، أن إمامة الأمة يضع الجماعة أمام مسؤولياتها الدعوية والتربوية بخصوص هذا السواد، وهو ما أخذ تقريبا معظم فقرات الكتاب بحيث يمكن أن نعتبر سؤاله :كيف نتغلغل في في السواد الأعظم؟ أهم سؤال حاول الكتاب الإجابة عنه. محورية الولي المرشد في عملية إمامة الأمة لا يختلف كتاب عبد السلام ياسين كثيرا عن كتاب علي شريعي الأمة والإمامة الذي حاول مؤلفه أن يؤصل باستصحاب الأدوات المنهجية التي تتيحها العلوم الاجتماعية لمركزية الإمام من خلال طرح الحاجة إلى ترشيد الأمة، فعلي شريعتي، يجعل من ضرورة الترشيد والارتقاء بالأمة مسوغا لتبرير الحاجة إلى الإمام المرشد، والأستاذ عبد السلام ياسين، يجعل إمامة الأمة وتجنيدها شرطا للقومة، ويشترط لهذا كله، أن تكون هذه العملية تحت توجيه الولي المرشد، ولذلك، أعاد كتابه السجال الفكري حول التصوف ومحورية الولي المرشد، لكن هذه المرة ليس مع التوجه السلفي، ولكن ضمن السقف الحركي، أي مع الجماعات الإسلامية، وحرص الأستاذ عبد السلام ياسين على الاستدلال نقل فقرات كثيرة من كتاب عبد القادر الجيلاني من الفتح الرباني، ليخلص في خلاصة السجال حول مفهوم السلوك إلى الله، إلى أن مفتاح الطريق وضمان السلوك صحبة رجل. رؤى في التربية والإعلام والاجتهاد ما ميز هذا الكتاب، أن الأستاذ عبد السلام ياسين طرح رؤيته للتربية والإعلام والاجتهاد في سياق دولة القرآن، ففي مجال التربية، كانت الرؤية المؤطرة للشيخ ياسين هي إعادة بناء أو صياغة المدرسة الإسلامية وكسر المدرسة الاستعمارية وامتداداتها، بحيث يعتبر أن أي ثورة تروم تغيير المجتمع من أساسه لا بد لها أن تضع أمامها نموذجا للشخصية التي تريد تنشئتها على ضوئها ومبادئها وأهدافها، ولذلك، فالمشروع الذي يطرحه في مجال التربية والتعليم، لا يعنى بالأساس بتغيير بنى المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإنما يكمن بالأساس في تغيير الإنسان، وما يترتب عن ذلك من الانتقال من المدرسة الأجنبية شكلا وذوقا ومعلمين ومادة وتوقيتا ونظاما، وما يستلزمه من معانقة المدرسة الإسلامية لهموم الشعب ومشروعاته المحلية، ومن الارتباط بالحياة العامة ومحيط الشغل. ويشترط لذلك أن تكون المدارس مستقلة ماليا عن الدولة حتى لا تكون خادمة للأنظمة السياسية ناطقة باسمها. ويمضي في تفصيل رؤيته، في الحديث عن مركزية اللغة العربية، والحاجة إلى الخبراء العمليين القادرين على الانخراط في تحقيق الأهداف العملية الإنجازية لدولة الإسلام المجاهدة وسط عالم مليء بالتحديات. بيد أن هذه الأهداف المثالية التي بسطها ألأستاذ عبد السلام ياسين ضمن رؤيته للمسألة التربوية والتعليمية، لم تمنع من ورود بعض الأفكار والتدابير التي تثير كثيرا من التوجس مثل الحديث عن تطهير أجهزة التربية والتعليم من جراثيم الإلحاد، واعتبار الإيمان مؤهلا أساسيا في اختيار المعلمين والأساتذة ورجال الإدارة، صحيح أن الشيخ ياسين تحدث عن المرحلية في تنزيل هذه التدابير، لكنها في الجملة تطرح أسئلة عن الرؤية الاستيعابية للمجتمع، ودور الآخر في المشروع الإسلامي، وهو ما سبق وطرحه الأستاذ ياسين في كتابه حوار مع الفضلاء الديمقراطيين وكذا كتابه العدل. أما بخصوص رؤاه للإعلام، فقد كانت أفكاره في الجملة متجاوزة وغير مستوعبة للدينامية الإعلامية، ولعل تأخر صدور هذا الكتاب مدة ثلاثة عقود يفسر هذه الملاحظة، فباسثناء، ما أورده الشيخ ياسين بخصوص بعض المواصفات التي ينبغي للصحافة أن تلتزم بها، ومنها ضرورة تأسيس نظام صحافة (قانون الصحافة) لا يطعن في الأعرض ولا يماري ولا يداري ولا يموه في الحق، باستثناء ذلك، لا تكاد تجد في ما طرحه أفكارا تقليدية في الإعلام الإسلامي مثل تحبير القرآن وإنشاد الشعر وتشخيص القصص، بالإضافة إلى إباحة الموسيقى والسماع لخدمة مشروع دولة القرآن. أما بخصوص موقفه من الاجتهاد، فأهم ما طرحه الكتاب هو ضرورة جعل الأولوية للاجتهاد في كيفية تربية جند الله وكيفية تنظيمهم وأساليب زحفهم لتسلم إمامة الأمة فالوصول إلى الحكم، إذ يعتبر الشيخ ياسين هذا الاجتهاد هو اجتهاد كليات، أما ما عداه من قضايا الاجتهاد في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدستورية فهي مجرد اجتهاد في التفاصيل. ويبرر الشيخ ياسين هذه النظرة بكون الاجتهاد يحتاج إلى التطبيق، وأنه ما دام الحكم في يد حكام الجبر، فلا أمل في التطبيق، ولذلك، فأول ما يطلب، وأب الاجتهاد وأمه، هو بحث طرق الاستيلاء على الحكم ووسائله وشروطه، وبعد ذلك يتم التفصيل في القضايا الأخرى، على أن يكون الاجتهاد اجتهادا جماعيا تتكامل فيه الخبرات العملية، مع العلم بالنصوص والتخصص الفقهي وبعد النظر الأصولي. وبخصوص قضية البربامج عند الإسلاميين، يرى الشيخ ياسين، أنه لا بد من عرض الفقه الفرعي (يقصد رؤية الجماعة وبرنامجها السياي والاقتصادي) حتى تكون نية الجماعة وفهمها للشريعة معروفين منشورين لتلتف الأمة حول منهاجنا وبرنامجنا، لكن الانتقال من الأماني المعسولة والبرامج المعوضة إلى الإنجاز لا بد له من اجتهاد كلي يضع على رأس مهاماته إسقاط الحكم. هكذا يقدم الأستاذ عبد السلام ياسين أفكاره وهي تسير في نفس خط أفكاره السابقة، ولا تنم عن أي مراجعة بخصوص رؤيته السياسية الاستراتيجية، كما أنها، وخلافا لكتب سابقة، لا تطرح أي رؤية لمنهجية التعامل مع مكونات الواقع السياسي، إذ يغلب على التفكير الطابع الشمولي (التوتاليتاري) الذي يقسم المشهد السياسي إلى خصمين، الحركة القائدة للجماهير، والنظام السياسي المسيطر على الحكم، كما لو كان المشهد السياسي لا يضم بين أي فاعلين سياسيين أو مدنيين (لا تعويل على الخاصة) إلا السواد الأعظم وعامة الأمة التي تضعها الجماعة في حسابها الاستراتيجي.