أخصص عمود هذا اليوم لخاطرة مستلهمة من سورة الجمعة التي من بين ما جاء فيها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ). أخصص مقال اليوم ليس من أجل إصدار فتوى بعدم الخروج إلى مسيرات فاتح ماي لأنها ستصد الناس عن صلاة الجمعة وعن ذكر الله، ولا للدعوة إلى إلغاء تلك المسيرات أوتأخيرها إلى المساء كما طالب بذلك كثير من المناضلين، ولا إلى المطالبة بتأخير صلاة الجمعة بعض الوقت كي يتسنى للمناضلين الجمع بين الواجبين؛ سيرا على القاعدة الأصولية القائلة: الجمع مقدم على الترجيح، لأنه من الممكن جدا الجمع بين الخيرين والمواءمة بين الفضلين، ولكن لأشير إلى ملمح التوازن والوسطية في منهج الإسلام من خلال أهمية القيام بالواجبات الوقتية التي لا يجوز إخراجها عن وقتها، وملمح إمكانية تعدد الأدوار التي يمكن أن يقوم بها الشخص الواحد في اليوم الواحد والعمر الواحد إذا أعمل قاعدة واجب الوقت. ذلك أن كون الإنسان عاملا أو موظفا لا يتنافى مع دوره كأب أو أم، وهذا الدور لايتنافي مع دوره كمسؤول سياسي أو ناشط جمعوي أو نقابي، مع مراعاة النسب ودرجة المسؤوليات والجهد المطلوب تقديمه في كل دور من هذه الأدوار. قد أفاجئ البعض إذا قلت إنه لا يوجد حسب علمي المتواضع ما يوجب في النصوص اتخاذ يوم الجمعة عطلة، ولكن الأمر هو اجتهاد من أجل مراعاة خصوصية الأمة وشخصيتها الدينية والحضارية، كما يفعل اليهود الذين يتخذون من يوم السبت يوم عطلة، والنصارى أو الأمم ذات الأصول النصرانية التي تتخذ من يوم الأحد عطلة. ولكن المشكلة في كوننا نقلد تلك الأمم ونسير وراءهم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلناه كما قال رسول الله صلى عليه وسلم. اتخاذ يوم الجمعة عطلة أو عدم اتخاذه هو حسب تقديري والله أعلم مسألة تقديرية ترتبط بالسياسة الشرعية، والمحظور هو تقليد الأمم الأخرى ظنا أن نهجهم هو النهج الأمثل في شؤون الدين والدنيا في كل الأحوال، أي حتى لو دخلوا مدخلا ضيقا مثل مدخل جحر الضب. وإذا رجعنا إلى الآية أعلاه نجد أن المذموم ليس هو العمل والتجارة يوم الجمعة، ولكن أن يكون العمل والتجارة ملهيا عن ذكر الله. والأكثر من ذلك أن الآية تقول وتوجه أنه بعد إيقاع صلاة الجمعة: إن عليكم أن تضربوا في الأرض وتنتشروا فيها ابتغاء لفضل الله. صلاة الجمعة ويوم الجمعة ينبغي أن يكونا جامعين للمؤمنين حين النداء إلى الصلاة، أما قبل ذلك وبعده فهو الانتشار في الأرض والعمل، مما يعني أن لكل واجب وقته، وللصلاة وقتها في حياة المؤمن، وللتجارة وقتها، وللعمل السياسي مواسمه وأوقاته، وللنضال الاجتماعي، وللنفس حقها من الوقت، وللأهل حق من الوقت، وللأبناء حق من الوقت، وإن من الواجب ليس فقط القيام بالواجبات، ولكن إيقاع الواجبات في أوقاتها، وإعطاء كل دور من تلك الأدوار حقها كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الأنوار تتراحم ولا تتزاحم. فكما أن ترك الصلاة أصلا هو تضييع لها، فإن إيقاعها في غير وقتها تضييع لها. كما أن الانشغال ببعض الواجبات التي تتحمل التأجيل عن واجبات لا تتحمل التأجيل هو من نقص الفقه في الدين، بل إنه يكون من باب تلبيس إبليس الذي من مداخله أيضا شغل الإنسان بعبادة مفضولة عن عبادة أفضل. وفي هذا الصدد يقول الدكتور القرضاوي: وكثيراً ما نجد الذين حُرموا نور العلم ورشد الفقه، يذيبون الحدود بين الأعمال فلا تتمايز، أو يحكمون عليها بغير ما حكم الشرع، فيُفْرطون أو يفَرطون، وهنا يضيع الدين بين الغالي فيه والجافي عنه. وكثيرا ما رأينا مثل هؤلاء - مع إخلاصهم - يشتغلون بمرجوح العمل، ويدعون راجحه، وينهمكون في المفضول، ويغفلون الفاضل. وقد يكون العمل الواحد فاضلاً في وقت مفضولاً في وقت آخر، راجحاً في حال مرجوحاً في آخر، ولكنهم - لقلة علمهم وفقههم - لا يفرقون بين الوقتين، ولا يميزون بين الحالين. اليوم كثير من المناضلين والإخوة الملتزمين ممن هم من المعنيين بالنضال الاجتماعي ومن ثم بمسيرات فاتح ماي ينتظرون التعليمات التنظيمية كي يناضلوا أويسيروا، وإذا فعلوا ذلك لا يفعلوه إلا وهم كارهون ، بل إن البعض لا يجد حرجا أن يكون من المتفرجين على قارعة الطريق، ويعتبر أن العمل النقابي ليس سوى شأن الوصوليين والمشاغبين، وبعضهم قد يتعلل بالتزامات تنظيمية أو سياسية مع أنهم من العمال والموظفين والمستخدمين المعنيين بالقضايا المطلبية التي تناضل من أجلها النقابات، ولا يترددون في طرق باب النقابات لمعالجة مطالبهم الفردية أو الجماعية. والأدهى من ذلك أن هناك من يعتبر يوم فاتح ماي يوم عطلة، خاصة إذا تزامن مع عطلة نهاية الأسبوع، مع أن هذه العطلة إنما شرعت لتمكين العمال من التلاقي واستعراض قضاياهم ومطالبهم. لذلك نقول إن من واجبات هذا اليوم شرعا وعقلا هي الخروج في مسيرات فاتح ماي والمشاركة في تظاهراتها، وأن ما يمكن أن يشغل عنها لا يعدو أن يكون لعبا كما قال عبد الله بن المبارك للفضيل بن عياض حين وجده معتكفا بجوار البيت في الأبيات المعروفة : يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب