انتهت فعاليات اليومين الدراسيين اللذين نظمتهما وزارة العدل لفائدة المسؤولين القضائيين في موضوع إصلاح القضاء، وتركت وراءها أسئلة عميقة يتعلق بعضها بتدبير ملف إصلاح هذا الورش، ويتعلق بعضها الآخر بالرؤية التي يحملها الفاعلون القضائيون لإصلاح هذا الورش. فالصيغة التي نظم بها اليومان تعطي انطباعا سلبيا حول منهجية تدبير ملف إصلاح هذا الورش، إذ بدل أن تترجم مضمون خطاب العرش لسنة 2007, الذي دعا إلى تجند الجميع لتحقيق إصلاح شمولي للقضاء، وبدل أن ترتفع إلى روح خطاب العرش لسنة 2008 الذي اعتبر أن بلورة مخطط مضبوط لإصلاح القضاء ينبغي أن ينبثق من حوار بناء وانفتاح واسع على جميع الفعاليات المؤهلة المعنية، فقد اختارت إشراك المسؤولين القضائيين دون بقية المكونات الفاعلة في هذا الورش، وهي الصيغة التي ستنعكس سلبا على الخلاصات التي انتهى إليها هذان اليومان، والتي ستكون في أحسن أحوالها مختزلة وممثلة لوجهة نظر واحدة. أما بخصوص المقاربة المعتمدة لإصلاح ورش القضاء، فيظل السؤال الأكبر هو كيفية تحقيق استقلالية القضاء في ظل تردد كبير في حل الإشكالات الدستورية التي ترهن مؤسسات القضاء في يد السلطة التنفيذية، كما هو الحال بالنسبة إلى المفتشية العامة المرتبط عملها بقرار وزير العدل، والتي تتحكم حتى في المجلس الأعلى للقضاء، بحكم أن تقاريرها تعتمد لتقرير مصير القضاة ومستقبلهم المهني ترقية وتأديبا، وكما هي حالة المجلس الأعلى للقاء نفسه الذي يرأسه وزير العدل!! ولعل هذا التردد والانتظارية في معالجة المعوقات الدستورية لاستقلال القضاء وما تخلفه من خلط بين إدارة العدل وإدارة القضاء على حد تعبير المحامي عبد الحريم الجامعي، سيجعل من شعار إصلاح هذا الورش مجرد حلم لا سبيل إلى تحقيقه، بل وسيكرس نفس الأعطاب السابقة، وسيزيد من نزع ثقة الناس وكذا الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين عن المؤسسات القضائية، وتلويث سمعة القضاء المغربي في الداخل وتشويه صورته في الخارج. إن الأرقام التي أوردها تقرير المعهد العربي لتطوير قواعد القانون والنزاهة عن الفساد القضائي في المغرب تبعث حقيقة على القلق، فـ 51,11 من المتقاضين أكدوا أنه طلب منهم أداء رشاوى وإكراميات للجهاز الإداري، و 25,3 منهم طلب منهم تقديم هدايا أو مبالغ مالية للقضاة الذين سيبثون في قضاياهم، و50,2 أعلنوا أن سلوك المحامي اتجاههم لم يكن نزيها، كما كشفت تقييمات هذا التقرير فيما يخص نزاهة القضاة، وشفافية إجراءات المحكمة، وحياد الأحكام، وكذا الضغوط على القضاء في إصدار الأحكام القضائية، وتمتع القضاة بالنزاهة وبعدهم عن الفساد، وحياد القضاة عند بثهم في القضايا المعروضة عليهم، أن وضع المغرب في مستوى جد نازل. طبعا، لا يمكن اعتبار الفساد القضائي مرتبطا بشكل طردي بالإشكالات الدستورية، فهناك العديد من صور الفساد القضائي تعود إلى قضية الضمير المهني، لكن، لا يمكن للمؤسسات القضائية أن تكون لها الفعالية المطلوبة في تحقيق استقلال القضاء وفي مواجهة الفساد القضائي وبقية الاختلالات الأخرى في ظل ارتهانها للسلطة التنفيذية. فما دامت المفتشية العامة المرتبطة بالجهاز التنفيذي هي التي يوكل إليها مهمة إعداد التقارير حول حياد القضاء ونزاهتهم ومهنيتهم، وهي التي يعتمد المجلس الأعلى للقضاء تقاريرها في الترقية والتأديب، فإنه من المتعذر الحديث عن استقلال القضاء، كما أنه من المتعذر تصور عدم تورط القضاة في الارتشاء والفساد القضائي، فالقاضي الذي يعرف أن المفتشية العامة المرتبطة بوزير العدل تتحكم في مستقبله ومصيره المهني لا يملك القدرة على أن يخالف تعليمات الإدارة وضغوطها وتأثيراتها عليه؛ سواء في الاستجابة لشهوات بعض النافذين في الإدارة أو في إصدار الأحكام. وعليه، تبقى الضمانة الأكيدة لاستقلال القضاء وإصلاح هذا الورش أن يمكن هذا القطاع من الاستقلالية التامة عن السلطة التنفيذية، وأن يكون الحوار الواسع والمنفتح الذي دعا إليه الملك مناسبة للانفتاح على تجارب عديدة في بعض الأنظمة القضائية التي تقدم نموذجا متميزا في إصلاح القضاء، وفي نفس الوقت في استقلاله عن السلطة التنفيذية.