لم يعدم الخطاب الإسلامي الوسيلة لبناء مفرداته السياسية، فقد كان يجد في بعض النصوص الشرعية أرضية خصبة لتأسيس ملامح المشروع السياسي الإسلامي، فالقرآن يتحدث عن الشورى وعن العدل، وينهى عن الظلم والبغي، فهو بهذا الاعتبار يتيح للفكر الإسلامي إمكانية كبيرة لتأسيس مفرداته السياسية، وتأصيلها وإخراجها في نسق مقبول، مشفوع بجملة من الأمثلة والشواهد المنتقاة من داخل السيرة النبوية والخلافة الراشدة، بل التجربة التاريخية الإسلامية برمتها. لكن حديث الفكر الإسلامي عن الشورى ساده كثير من المزايدة، وكأن الهم كان يدفع في اتجاه إيجاد مفردة سياسية من داخل المرجعية الإسلامية تكون في مستوى مفردة الديمقراطية، وما تحيل عليه التجربة السياسية الغربية، فكثيرا ما استمسك مفكرون بمفهوم الشورى، وخلقوا بذلك مزاوجة بين مفهومين، وبالغوا في رسم التقابل بين المصطلحين ودلالتهما الاصطلاحية، حتى صارت ثنائية الشورى والديمقراطية إشكالية دهرية في الفكر الإسلامي. وعند تقليب النظر، والتدقيق في المنتوج الفكري الإسلامي لا نكاد نجد تصورا إجرائيا لمفهوم الشورى، لقد ظل المفهوم شعارا سياسيا فارغا من كل مضمون، وظل الفكر الإسلامي يستصحب المقابلة بين الديمقراطية والشورى، وينفي الصفة المعيارية للمبدأ الإسلامي، ويجعله عنوانا لنظام حكم سياسي، تتمايز خصائصه عن النظام الديمقراطي الذي أنتجته التجربة الإنسانية في الحقل السياسي، لكنه عند الإجراء لم يستطع أن يتحدث عن صيغته وشكله، فظل يترنح بين صيغ متنوعة اعتمدها الصحابة رضوان عليهم في كسبهم وتجربتهم السياسية. وفي الوقت الذي أبدعت فيه التجربة الغربية صيغا لممارسة السلطة، وأسست إجرائيا لسلطة الأمة، وميزت دستوريا وقانونيا بين السلطات، وأعطت للأمة حق ممارسة الرقابة على الحاكم، اكتفت الأدبيات الإسلامية بتمييز نظام الشورى عن الديمقراطية بجملة من الميزات الاعتبارية كتعويض نفسي عن التخلف الحضاري الذي نعيشه، حتى إن بعض أهل الفكر والدعوة جعل للديمقراطية مساقا، وللشورى سياقا، واختار أن يركب السياق القرآني، ويستنكف عن المساق الغربي!! حين نعتبر الشورى نظاما سياسيا نحتاج أن نعطي لها صورا وصيغا، لنمثل للناس أي نوع من النظام السياسي نقترحه عليهم، ونكون بذلك ندعوهم - إذ نقدم لهم نماذج من تجربة الصحابة - لمقارنة ظالمة بين تجربة +بدائية؛، وتجربة حداثية فيها من الإغراء ما يجعل المرء منصرفا تماما عن التجربة الإسلامية التاريخية كما أبدعها الصحابة رضوان عليهم، ملتفتا إلى الكسب الإنساني الحديث، وأحيانا ندفع الناس إلى الاستهزاء بالنموذج الذي نبشرهم به حين نقنعهم أننا نمتلك تصورا متكاملا لنظام سياسي إسلامي. نحتاج أن تكون آراؤنا بمستوى من الوضوح لا تجعلنا مرتهنين لمسلمات فكرية لم تمحص بالقدر الكافي. إننا نحتاج إلى جرأة كبيرة تقول إن الشورى ليست إلا مبدأ معياريا يهتدي به الفكر الإسلامي لإبداع الشكل المناسب لممارسة السلطة طبقا لشروط الزمن وسياق الواقع، ولقد فهم الصحابة الشورى بهذا المعنى، وأبدعوا نماذج مختلفة، وصورا متنوعة لممارسة السلطة، إذ اجتهد كل خليفة في تمثل المفهوم المعياري للشورى طبقا لكسبه وخبرته المعرفية والسياسية، وأنتج الصورة المناسبة لتنزيله على الأرض. والصيغ التاريخية التي أنتجت ضمن سياقها كانت أقرب ما كان متاحا لممارسة السلطة وتنزيل مفهوم السيادة للأمة، ففقه الصحابة السياسي لم يكن يخضع لنموذج معين للحكم، يشترط الانضباط إليه حتى يكون ملتزما بمبدأ الشورى، وإنما كانت التجربة مفتوحة تستوعب الكسب الإنساني والخبرة السياسية الموجودة آنئذ، وتحاول الاقتراب من ملامسة المبدأ المعياري.حين نتبنى مبدأ الشورى بهذا المعنى، ونجعله مبدأ عاما تهتدي به الممارسة السياسية الإسلامية، نكون بذلك قد أسهمنا في إنهاء نقاش فارغ لا حاصل وراءه حول الشورى والديمقراطية، ونكون أيضا قد جنبنا أنفسنا تبديد طاقاتنا في إيجاد المفارقات بين الديمقراطية والشورى، وأعدمنا هذه الثنائية الوهمية.ما أنتجته التجربة الغربية من نظم سياسية تعطي السيادة للأمة، وتحمي حريات الناس، وتضمن كرامتهم، وتحافظ على مقدرات الأمة بتشريع حق المساءلة والمراقبة، هي صيغة لم يستطع الفكر السياسي الإسلامي اليوم أن ينتج أفضل منها للوفاء بمفهوم الشورى، وقد أثبتت التجربة السياسية أن الأمة بشرائحها ونخبها متطلعة لهذه الصيغة في ممارسة السلطة لمنع الاستبداد، وللتمتع بالكرامة والحرية، وتحقيق التنمية الاقتصادية. وغير واضح ذلك الميل غير المبرر لتمجيد نظام للشورى لم تعرف صورته ولا صيغته؛ اللهم أشكال اجتهد الصحابة في إنتاجها ضمن شروط واقعية يتعذر استصحابها ونقلها بصورها التاريخية في واقعنا الحالي.ليس عيبا أن يبدع غيرنا أشكالا لم نستطع نحن أن نقاربها، وقد كان اجتهاد الصحابة السياسي ضمن شروط واقعهم، وفي ظل تجربتهم التاريخية متميزا؛ في وقت كانت الشمولية هي الصيغة السائدة في ممارسة الحكم، إذ كان إبداع الصحابة تمثلا إيجابيا لمفهوم الشورى، غير أنه لم يكن مرتهنا لأي نموذج، ما دام السائد من نظم الحكم يزكي مفهوم السلطة المطلقة.في واقعنا، لا يجوز الاستمساك بمبرر نفسي أو تاريخي لنقنع أنفسنا بأننا نمتلك تصورا واضحا لنظام سياسي ينطلق من قاعدة الإسلام، ولعل الطرح الأنسب، والأقرب للقبول أن نعتبر كل اجتهاد بشري يروم تحقيق مبادئ الإسلام في الحكم والسياسة مفردة سياسية إسلامية ينضاف بعضها إلى بعض ليتشكل النظام السياسي الإسلامي الذي نتحدث عنه الآن بعمومية إطلاقية، ولا نمتلك في أحسن الأحوال أن نزيد على مجرد شرح كلمات نستدل على بعضها بآيات، ونستشهد ببعض الأمثلة والشواهد التاريخية، منفصلين تماما عن واقعنا الذي يشهد نماذج وتجارب لممارسة السلطة تعتبر أبلغ في الإقناع، لما تمتلكه من القابلية للتطبيق، وتحقيق النتائج العملية على الأرض. سنكون دشنا ثورة نقدية ومنهجية إذا ما أقبلنا على مفاهيمنا الفكرية والحركية واحدة واحدة، نناقشها ونطرح عليها الأسئلة، ونسهم في فتح نقاش حقيقي بقصد إجراء المراجعات الضرورية عليها.