مع بداية التسعينيات، سينضج الموقف لدى حركة الإصلاح والتجديد، وستتجه نحو بحث الموقف من العديد من القضايا ذات الصلة بالحقل الديني والثقافي والسياسي، بحيث إنها جعلت من محطة الأيام التكوينية التي كانت تعقدها في الصيف مناسبة للتداول حول أوراق يجتهد بعض المختصين في صياغتها والانتهاء بصددها إلى موقف ناظم. وهكذا، ومع سنة ,1993 ستعرض حركة الإصلاح والتجديد ورقتين مهمتين تتعلق الأولى بالموقف من السلفية، والثانية بالموقف من التصوف، وقد كان الدكتور عز الدين توفيق هو الذي تكلف بإعداد ورقة الموقف من التصوف والتي عرفت نقاشا مثمرا انتهى في الأخير إلى ما يشبه التبني الكامل لمقتضياتها ومنهجها. في دواعي إنتاج الورقة إذا كان النقاش حول التصوف قد أثير داخل أطياف الحركة الإسلامية المغربية في بداية الثمانينات بسبب الموقف من الأستاذ عبد السلام ياسين وكتاباته، فإن الأمر سيختلف عنه في مرحلة التسعينيات. فعلى الرغم من أن التصوف بالشكل الذي كان يطرحه الأستاذ ياسين في مشروعه ظل يطرح العديد من الأسئلة لدى أبناء حركة الإصلاح والتجديد بحكم الجدل الذي كان قائما حول نوع التربية الذي ينبغي أن تعتمده الحركة الإسلامية، فإن الدواعي التي أملت عرض هذه الورقة والتفكير في موقف من التصوف كانت تتجاوز هذه الحثيثة، وترتبط أكثر بالحاجة إلى رسم العلاقة المفترضة بين مكونات الحقل الديني في المغرب وخاصة ما يتعلق منها بالمكون الصوفي التقليدي، ولعل ما يثبت هذا التحليل أن حركة الإصلاح والتجديد وقتها لم يكن لها أدنى احتكاك يذكر بالسلفيين، ولم يكن من داع ذاتي لديها إلى إنتاج ورقة حول الموقف من السلفية، ولكن الموقف قد نضج عندها لبحث مكونات الحقل الديني، وجمع الآراء المتداولة بخصوص كل مكون من هذه المكونات واستثمار محطة الأيام التكوينية لتتداول بشأن هذه الآراء والانتهاء بصددها إلى موقف ناظم. كانت حركة الإصلاح والتجديد معنية في هذه المرحلة بعد أن حسمت في اختياراتها الاستراتيجية بتوحيد موقف أبنائها بصدد العديد من القضايا الإشكالية ومحاولة الانتهاء إلى موقف ناظم بخصوص العديد من القضايا. التصوف بين المقاربة السياسية والمقاربة العلمية كان مطروحا على حركة الإصلاح والتجديد أن تحسم الاختيار في المقاربة التي ستعتمدها في بحث الموقف من قضية التصوف، وأن تختار بين المقاربة السياسية التي تهتم بإنتاج الموقف الذي يخدم موقع الحركة ولا يضر بكسبها السياسي، وبين المقاربة العلمية التي لا تجعل البعد السياسي محددا في تناولها، وإنما تعرض للمسألة في بعدها العلمي والمنهجي، وتحرر موضوعات التصوف ومباحثه، وترصد موقف العلماء والمحققين منه، وتنظر إلى حاجة الحركة الإسلامية إليه بناء على الموقف من مباحثه. وقد كان من اختيار الحركة المنهجي أنها حسمت في المقاربة العلمية، واعتبرت التصوف مكونا من مكونات التراث الإسلامي لا يمكن تجاوزه أو الاستغناء عنه، وحددت تبعا لذلك موقفها من قضاياه ومباحثه. بين الموقف المجمل والموقف التفصيلي كانت الورقة واضحة في رفض الموقف المجمل من التصوف، ذلك أن هذا الموقف سينتهي بها إلى تبني أحد الموقفين: القبول المطلق للتصوف أو الرفض المطلق له، ولا يخفى ما في الموقفين من تطرف، فالأول سيدفع البعض للاحتجاج بمسائل ومباحث في التصوف لا تقوم على مستند شرعي بل قد تكون مصادمة لنصوص الشريعة، والثاني قد يعترض عليه بالجوانب المشرقة في هذا ، تراث الصوفي مما يتعلق بتزكية النفوس وطب مداواتها من عللها، ولذلك كانت هذه الورقة واضحة في اختيار منهج التفصيل، بحيث اعتبرت التصوف شبيها لعلم التفسير أو الفقه أو الحديث. فهذه المباحث كما تتضمن جوانب مشرقة من آراء المفسرين وأقوال المحدثين واختيارات الفقهاء فإنها لا تعدم في المقابل وجود إسرائيليات مبثوثة في التفاسير تشوش على المراد الإلهي، وأحاديث ضعيفة وموضوعة، وآراء مرجوحة للفقهاء لا تقوم بها المصلحة. انطلقت الورقة من مقدمة أساسية تعتبر التصوف مكونا من مكونات التراث الإسلامي، يمزج بين ما له مستند شرعي وأصل يندرج تحته، وما يندرج ضمن البدع المذمومة، وكان الحاكم والمعيار الذي اعتمدته الورقة في التمييز بين الأمرين هو الكتاب والسنة، فما اندرج ضمن أصل من أصولهما صح اعتماده، وما كان عاريا منهما أو خالف نصوص الشرع فلا يمكن القبول به. موقف الاعتدال وعلى الرغم من الآراء المتشددة التي كانت متداولة داخل الجماعات السلفية من التصوف ومباحثه إلا أن الحركة اختارت موقفا معتدلا منه ، وقد استندت في ذلك على رأي العلماء المحققين من أمثال الشاطبي رحمه الله الذي فصل الموقف من التصوف بحسب مباحثه وآراء شيوخه في بعض القضايا وانتهى في كتابه الاعتصام إلى ضرورة عرض ما جاء عن الأئمة خ يقصد ائمة التصوف- على الكتاب والسنة، فما قبلاه قبلناه، وما لم يقبلاه تركناه، ولا علينا إذا قام الدليل على ابتاع الشرع، ولم يقم لدينا دليل على اتباع أقوال الصوفية وأعمالهم إلا بعد عرضها، وبذبك وصى شيوخهم، وإن كان ما جاء به صاحب الوجد والذوق من الأحوال والعلوم والفهوم فليعرض على الكتاب والسنة، فإن قبلاه صح، وإلا لم يصح، فكذلك ما رسموه من الأعمال وأوجه المجاهدات وأنواع الالتزامات وهو نفس الموقف الذي اختاره سلفه الشيخ ابن تيمية حين سئل عن الفقراء فكان جوابه كما مثبت في الجزء الحادي عشر من فتاواه: تنازع الناس في طريقهم: فطائفة ذمت الصوفية والتصوف: وقالوا: إنهم مبتدعون خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف، وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام. وطائفة غلت فيهم، وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء.. وكلا طرفي هذه الأمور ذميم. والصواب: أنهم مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله. ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب. ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم نفسه، عاص لربه. وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة، ولكن عند المحققين، من أهل التصوف ليسوا منهم، كالحلاج مثلا، فإن أكثر مشايخ الطريق أنكروه، وأخرجوه عن الطريق، مثل الجنيد سيد الطائفة وغيره وهكذا اختار رحمه منهج التحقيق الذي انتهى به إلى أن التصوف :مشتمل على الممدوح والمذموم، كغيره من الطريق، وأن المذموم منه قد يكون اجتهاديا، وقد لا يكون، وأنهم في ذلك بمنزلة الفقهاء في الرأي فإنه قد ذم الرأي من العلماء والعباد طوائف كثيرة، والقاعدة التي قدمتها تجمع ذلك كله، وفي المتسمين بذلك من أولياء اللّه وصفوته، وخيار عباده ما لا يحصى عده. كما في أهل الرأي من أهل العلم والإيمان من لا يحصى عدده إلا اللّه وهو نفس الرأي الذي اختاره تلميذه ابن القيم رحمه الله. تفصيل الموقف تبعا لهذا الموقف التفصيلي الذي اختارته الحركة، فقد ارتأت التعامل مع التصوف من خلال تحكيم قاعدة عرض قضايا التصوف على أدلة الشرع، فما كان لها أصل لم تر الحركة حرجا في تبنيه ولا عبرة بعد ذلك بالأسماء أكانت تصوفا أو تزكية أو تربية أو سنة أو غير ذلك، وما لم يكن له أصل أو عاد على نصوص الشرع بالإبطال فلا يمكن قبوله. وتنزيلا لهذه القاعدة، مثلت الورقة بالعديد من الأمثلة والشواهد التي تتيح من جهة إمكانية الإفادة من جوانب مشرقة من التصوف خاصة ما يتعلق منها بالتزكية النفسية وطرق مداواة النفوس من عللها وطب القلوب، وتنبه من جهة أخرى على الشطحات التي وقع فيها بعض المنتسبين خ هكذا بلغة شيخ الإسلام- للتصوف مما لا أصل له في الشرع كالقول بالاتحاد ووحدة الوجود والفناء بالمعنى المنحرف، وغيره من المبدعات المذمومة التي لا أصل لها. وقد نبهت الحركة في ورقتها إلى ضرورة التعامل بحذر من عبارات الصوفية وحملها على أحسن المحامل كما هو منهج علماء الأمة، فقد كانوا رحمهم الله يجرونها على أحسن المحامل ويلتمسون لها أصولها من الشرع متا أمكنوا ذلك، ويجتهدون عن الابتعاد عن التكفير ما كانت ألفاظ الصوفية تحتمل صرف المعنى على غير ما يستدعي الكفر. ثمرات لقد أتاح هذا الموقف المعتدل لكثير من الإخوة أن يتعاملوا بإنصاف مع الصوفية، وأن يستفيدوا من كتبهم وطرقهم في التربية وتزكية النفس، وأن يرسموا جسور التعاون المستقبلي مع مكون رئيس في الحقل الديني المغربي، كما أعانهم ذلك على تجاوز العديد من الاحتكاكات التي انخرطت فيها بعض المكونات الإسلامية ضدا على التصوف من حيث الجملة وعلى الأستاذ عبد السلام ياسين من حيث التفصيل، واليوم تبدو الحاجة ملحة، إلى إعادة قراءة عناصر هذه الورقة والتي تمثل أحد أرقى المواقف التي أنتجها فصيل من فصائل الحركة الإسلامية قبل الحديث عن إحياء التصوف والدور الذي يمكن أن يضطلع به في الراهن الحالي. مضمون ورقة عرضها الدكتور محمد عز الدين توفيق في الأيام التكوينية لحركة الإصلاح والتجديد (سابقا) صيف 1993