من خصائص التصور الإسلامي الشمولية والتوازن.ومن الشمولية الاعتناء بالإنسان في كل أطواره وفي كل جوانبه الظاهرة والباطنة، وأمره بإصلاحه ظاهره وباطنه قال تعالى: وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ (الأنعام : 120 ). ولئن وجد من عنده خلل على مستوى التصور فله حديث آخر ، ذلك أن الذي يعنينا هنا هو خلل التنزيل. فمن مداخل الفساد على مستوى التنزيل تغليب جانب على جانب، فيتضخم أحد الجوانب إلى درجة الإفراط ويتضاءل الجانب الثاني إلى درجة التفريط والمطلوب كما هو معلوم لا إفراط ولا تفريط . ومن الإفراط تحول المظاهر إلى محددات للإنتماء ،ومقاييس للصلاح والاستقامة ،ورفعها فوق درجتها التي منحها الشرع مما يستدعي التنبيه و المراجعة.وهذا الأمر لا يعني فئة من الناس كما قد يسبق إلى ذهن البعض بل هو خلل عام، الناس فيه مشتركون وإن كانوا فيه متفاوتين!! إن بعضا من المظاهر الخارجية قد جمعها حديث خصال الفطرة فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشر من الفطرة قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء؛ يعني الاستنجاء. قال الراوي: ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة رواه مسلم. وهذه الخصال تجمعها النظافة والجمال و العدد فيها على الصحيح لا مفهوم له، فلا تنحصر خصال الفطرة في هذه العشر، وقد جاء ذكر الختان مثلا في رواية أخرى... والمتأمل في أحوال المسلمين يجدهم قد جعلوا الختان مثلا محددا للإنتماء لهذا الدين، ولذلك قد يصل الأمر إلى جعله شرطا في التأكد من اعتناق الإسلام !! ولا شك أن الأمر فيه إفراط شديد!! وفئات أخرى من الناس قد جعلت من إعفاء اللحية مثلا محددا أساسيا في استقامة الشخص وصلاحه ، فلا تكاد تستسيغ حلقها من أحد، ولا تجد لأحد في ذلك عذرا !!وهذا أيضا من الإفراط ... ومن ذلك أيضا لباس الخطيب مثلا، حيث اعتاد الناس لباسا معينا، فصار أول ما ينتبه إليه إلى الدرجة التي قد يحول بين المرء وأداء الخطبة أنه لم يجد جلبابا يلبسه لتعويض إمام منعه مانع من حضور الجمعة مثلا! وهذا أيضا من الإفراط ... وأخطر ما تولد عن هذا التصور أن اتجه الناس إلى التركيز على المظاهر فانتشرت، لكنها بقيت مفتقرة لما يصدقها من الأعمال والمواقف. فالتزم المسلمون الختان وظن كثير منهم أنه بذلك سلم من الإثم، وأعفى كثير من المسلمين لحاهم ،وظنوا أنهم بذلك قد حققوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتزم الخطباء الجلباب فسلموا من انتقاد المأمومين. وبالعودة إلى سلف الأمة الصالح نجد هذه القصة الرائعة من مواقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقد قال له رجل: إن فلانا رجل صدق ، قال : هل سافرت معه ؟ قال : لا ، قال : فكانت بينك وبينه خصومة ؟ قال : لا ، قال : فهل ائتمنته على شيء ؟ قال : لا ، قال : فأنت الذي لا علم لك به ، أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد . هذه القصة التي رويت بصيغ متفاوتة فيها رد للأمر إلى نصابه. فعمر بن الخطاب لم يسأل عن شيء من المظاهر، وإنما سأل عن المواقف التي تكون فرصة لحسن تقييم الأشخاص . فذكر السفر ، وفيه تتبين درجة الصبر والتحمل والخدمة . وذكر الخصومة، وفيها تتبين درجة العفو والتجاوز والحلم . وذكر الأمانة، وفيها يتبن الحافظ لها والمضيع وخاصة أمانة المال كما جاء في رواية أخرى :هل عاملته بالدرهم والدينار؟ والعملة هنا غير مقصودة فيجوز أن نضع محلها الأورو والدولار!! وفي رواية أخرى ذكر الجوار وهو قريب من السفر لما فيه من معاني الملازمة التي يسقط معها التكلف فيظهر المرء فيها على حقيقته. وبالمقابل قال له:أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد وهذا الشق من الرواية ليس فيه أي انتقاص من الصلاة، وعمر بن الخطاب أبعد الناس عن ذلك، لكن فيها تحذيرا من صلاة لا أثر لها في سلوك المصلين وهي التي جعلها الله تنهى عن الفحشاء والمنكر فقال تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (العنكبوت : 45 ). وما قيل عن الصلاة يقال عن كل أفعالنا الظاهرة. الخلاصة إن هذا الدين قائم على الشمولية والتوازن، والتضخم خلل في الاقتصاد وفي الاعتقاد وفي كل أفعال العباد.