من يقرأ بعمق كتاب ألكسيس دو توكفيل الموسوم الديمقراطية الأميركية، يلمس كم كان نظرُ هذا المهاجر الفرنسي إلى الأراضي الجديدة فاحصاً وثاقباً وهو يراقب تطور بناء الديمقراطية في بلاد كان مِهمازُ الهجرة إليها الحرية بمعناها الواسع والشامل. فعلى امتداد موجات الهجرة المتتالية، لم يكن الطّهرانيون وحدهم من ضاقوا بانعدام حرية العبادات في أوطانهم فالتمسوا طريقَ البحث عن أرض جديدة يتواصلون فيها مع خالقهم دون شعور بالخوف، بل وُجد إلى جانبهم من ارتضى الهجرة بحثاً عن الرزق والثروة ومراكمة شروط الرفاه. لقد شكلت أميركا القرن السادس عشر أفقاً حقيقياً لكل من مَلّ ضيقَ العيش في وطنه، ونشَد التغيير لما هو أفضل.. إنها الأراضي الجديدة التي استهوت قلوب الكثيرين بغض النظر عن مواقعهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولعل مؤلف الديمقراطية الأميركية أحد هؤلاء، وإن جاء نزوحُه إلى هذا البلد متأخراً نسبياً. تأسست الديمقراطية الأميركية على فلسفة قوامها الحرية اللامتناهية: حرية الإنسان في تفجير طاقاته من أجل الاجتهاد والإبداع والبحث عن الجديد، وحريته المطلقة في أن يجهد من أجل تنمية وتطوير شروط عيشه، وحريته في أن يتبارى مع بني جلدِه في إيجاد الإطار الملائم للعيش المشترك، وعلى قاعدة كل ذلك تدرّج بناء الأمة الأميركية الجديدة التي أبدع دو توكفيل في تفسير عوامل نشوئها وارتقائها إلى الكمال. فهكذا نحت الآباء المؤسسون فلسفة النظام الأميركي، وضمّنوا ثورة القطيعة مع التاج البريطاني مجمل ما فكروا فيه وناضلوا من أجله، وفي صدارة ذلك قيم المشروعية والعقلانية والحداثة، أي بناء الدولة على أسس جديدة يكون لمكونات المجتمع الدور الأساس في الاجتهاد في وضعها والمشاركة في صياغة قَسماتها. وفعلاً، تسعفنا كتابات دو توكفيل في إدراك كيف كان بناء النظام الأميركي الجديد منطلِقاً من الأسفل نحو الأعلى خلافاً لما حصل في بلاد كثيرة، حيث تشكلت النظم بفعل مجهودات النخبة، وعلى أساس نظريات سياسية جاهزة. بيد أن التأسيس القاعدي لفلسفة الحكم في الأراضي الجديدة لم يخلُ من حضور العقل في كل لحظات تشكله، فالعقلانية واضحة بكثافة في مفاصل التاريخ السياسي الأميركي، وهي التي أغنت مفهوم الحداثة ويَسّرت سبل صيرورتها قيمةً مجتمعيةً مشتركةً.. إنها الصورة الأصيلة لأميركا لحظة تكونها وامتدادها أفقاً منشوداً للحرية ورحابة العيش. ودّعت أميركا القرنَ العشرين ودشَّنت الألفية الجديدة بقدر كبير من التشوش والاستفهام والاضطراب في صورتها الأصيلة، فقد تغيرت قسماتها الكبرى في علاقاتها ببلاد المعمورة، واهتزت داخل ولاياتها الشاسعة، وشرع كثيرون يتساءلون عمّا تبقى من رمزية تمثال الحرية في أميركا. أتيحت لي فرصة زيارة قرابة عشرين ولاية في الجهات الأميركية الخمس قبل الحادي عشر من سبتمبر بخمس سنوات (1996)، وعاودت زيارة هذا البلد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. ورغم أنني لم ألمس الفروقات بين التاريخين بسبب قصر الزيارة الأخيرة وانحصارها في مدينة بعينها، فقد شعرت من خلال إجراءات الدخول إلى التراب الأميركي، وأحاديث الجاليات العاملة فيها، وبعض ما يكتب عن واقع الحريات في أميركا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001, أن ثمة مفارقات في مآل الديمقراطية الأميركية. وأذكر في مناقشات جانبية في رحاب قسم الدراسات الدولية في جامعة كولومبيا، حيث كانت زيارتي الأخيرة (2006)، أنه كثيراً ما أثيرت مفارقتان: تتعلق الأولى بتراجع الحريات المدنية والسياسية داخل أميركا، وتخص الثانية منطق القوة الذي يطبع سياسة أميركا الخارجية ونزوعها اللاّمتناهي لفرض نموذج من الديمقراطية بحدّ السيف. ينطوي الدستور الأميركي (1787) على مجمل الحريات اللاّزمة لحياة الإنسان وعيشه الكريم، وهي في الواقع الحريات التي عزَّ على المهاجرين التمتع بها في أوطانهم الأصلية: حرية الاعتقاد والعبادة، وحرية المبادرة الاقتصادية، وحرية الفكر والتعبير والرأي، وحرية التجمع والاجتماع والانخراط في الشأن العام. وأضاف إليها الآباء المؤسسون ما لمسوه صالحاً لمجتمعهم الجديد. وتثبت النقاشات التي مهدت لميلاد الدستور القاري لعام 1787 قيمة وإستراتيجية هذه الحريات في فلسفة البناء الجديد للأمة الأميركية، غير أن ما أعقب أحداث 11 سبتمبر2001, وانتصار التحالف العسكري الصناعي وصعود تيار المحافظين الجدد، خلق مفارقة بارزة مُضِرّة بتراث أميركا في موضوع الحرية والدفاع عنها. وقد لمس الأميركيون أنفسهم تراجع بلادهم في هذا المجال، إذ عزّ على أصوات كثيرة الجهر بهذه الحقيقة والتعبير عنها صراحة، في وسائل الإعلام، والجامعات، وكل وسائط الاتصال. والحال أن المفارقة الفاقعة تكمن في ممارسات أميركا الخارجية، لاسيما في ولايتي الرئيس بوش (2000-2008)، إذ تصاعدت، باسم محاربة الإرهاب، موجات القوة والعنف ضد بلاد وشعوب كثيرة، بل دخلت معجم العلاقات الدولية مفاهيم لم تكن مألوفة من قبل، من قبيل الحرب الاستباقية، ونشر الديمقراطية، ومحاربة الدول المارِقة.. بل أُسقِطت جراء ذلك دول ونُصِّبت أخرى.. والأكثر رُفِضَت انتخاباتها على الرغم من ديمقراطية تنظيمها. وفي المُحصلة، قدّمت أميركا صورة البلد الناهي والآمِر دون سواها. تعبِّر المفارقات أعلاه عن حقيقة وجود اضطرابات في رؤية أميركا لذاتها ولطبيعة قيادتها للعالم. ولربما لم يحسن الإستراتيجيون الأميركيون تقديراتهم في تمثل منعطف نهاية القرن العشرين، حين بشروا بـ نهاية التاريخ وتوحد العالم في المنظومة الليبرالية، واستفراد أميركا بمصادر القوة في العالم. والحال أن الطبيعة تنبذ الرأي الواحد وتنشُد التوازن، فأميركا في حاجة إلى من يوازنها قوةً وفعلاً وتأثيراً، كما أنها في ضرورة قصوى لإعادة التواصل مع تراثها الأصيل: تراث الحرية اللامتناهية.. فهل يقدر الديمقراطيون، إن هم ظفروا بسباق الانتخابات، على إعادة أميركا إلى مربعها الأول؟ كل شيء ممكن ولا شيء مستبعد في الثقافة السياسية الأميركية. (ü) كاتب مغربي