يمثل اليسار المغربي حالة شديدة الخصوصية في المنطقة العربية، إذ استطاع الحفاظ على استمراريته رغم التحولات التي طرأت على المنطقة، مُشكلا بذلك طرفا مؤثرا في المعادلة السياسية بالبلاد. وتمكنت نواته الصلبة، ممثلة في الاتحاد الاشتراكي، من قيادة تجربة التناوب التوافقي، ثم التحول إلى مكون أساسي في الأغلبيات الحكومية التي عرفها المغرب في السنوات العشر الأخيرة. إلا أن الحصيلة الضعيفة لهذا اليسار في الانتخابات التشريعية في سبتمبر الماضي، والتي سجل فيها تراجعا مهولا على اختلاف مكوناته، بما فيها التي قاطعت طيلة حوالي ثلاثة عقود وشاركت لأول مرة، أدى إلى إضعاف موقعه داخل الحكومة بشكل كبير من ناحية. ثم تمكُّن +حركة كل الديمقراطيين؛ من التوسع في صفوف عدد من قواعده، وهي حركة طرح مشروعها وزير سابق في الداخلية، وتقدم نفسها بديلا قادرا على مواجهة ما تسميه بالتوجه المتطرف من ناحية ثانية، فضلا عن عجز مبادرات التقريب والتجميع لمكونات اليسار لمواجهة حالتي التشتت والبلقنة الشديدتين في صفوفه من ناحية ثالثة. وهي عناصر ثلاثة دلّت في نظر البعض عن انطلاق العد العكسي لنهاية اليسار المغربي، وانتقال قوته في التأثير على الحياة السياسية إلى الهامش، بما يعني انطلاق مرحلة سياسية جديدة. الواقع أن مثل هذه القراءات جد متسرعة، وغير مستوعبة بشكل كلي للحالة اليسارية المغربية، بل تحمل في طياتها نزعة إسقاطية لتجارب يسارية عربية وحتى مغاربية على الحالة المغربية، في حين أن التجربة المغربية تُقرأ في السياق المتوسطي الأوروبي أكثر منه العربي، وذلك لاعتبارات كثيرة ترتبط بالنشأة والتطور والعلاقات الداعمة والمدارس الفكرية المؤثرة في فكره السياسي والنظري، مما ممكنه من الاستمرار، خاصة أن هذا السياق يعرف حيوية لافتة فتحت على الأقل أبوابا لليسار المغربي من أجل التجديد، وإن كان في ذلك في حدود دنيا بالمقارنة مع تلك التجارب. وهذا لا ينفي أن التجربة اليسارية شهدت هزات وتعرضت لإنهاك شديد بسبب من المشاركة الحكومية من جهة أولى، وبروز حالات تصدع وانشقاق واحتراب سواء بين أحزابها أو حتى داخل هذه الأحزاب من جهة ثانية، وتحول عدد من القطاعات الوزارية التي تحملها إلى رافعة للمشروع الليبرالي وليس الاشتراكي من جهة ثالثة، بالإضافة إلى ظهور نزعات مصلحية ضيقة داخله أضعفت وحدّت من الجاذبية المبدئية له. وهي كلها عناصر تفسر حالة التراجع، لكنها لا تسمح من الناحية التحليلية بالقول بالوفاة، وذلك لأسباب أخرى يمكن أن يشكل المؤتمر الحالي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية نهاية هذا الأسبوع تعبيرا مركزا عنها. يمكن تركيز هذه الأسباب في ثلاثة عناصر: أولا، في تجنب السقوط في النموذج العربي الذي سوّق لفكرة التحالف بين الاستئصال واليسار الحزبي عند تراجع هذا الأخير، وذلك كورقة أخيرة لضمان استمراريته وتأثيره، وهو وإن تحقق في حالة المغرب على مستوى بعض الأفراد، فإن الحالة الحزبية اليسارية نأت عنه بشدة. فقد كان لافتا أن شهد المؤتمر قبيل انطلاقه تعبيرا عن وجود استعداد للتقارب بين الاتحاد الاشتراكي وحزب العدالة والتنمية ذي الخلفية الإسلامية، كما برز في صفوف هذا الأخير توجس واستشعار للخطر إزاء التراجع المتصاعد للاتحاد الاشتراكي باعتبار ذلك ليس سوى مقدمة لاختلال التوازن في الحياة السياسية، وبما يؤدي في نهاية المطاف إلى تغذية قوى الاستئصال العدمية ذات النزعات اللاديمقراطية، وهو وعي يتقاسمه العديد من القوى السياسية. وثانيا، في طرح إشكالية >السيادة الحزبية< واستقلال القرار الحزبي ورفض التدخل الخارجي في الشأن الحزبي كإشكالية مركزية في النقاش الحزبي. وهو ما برز في كون جل المرشحين لقيادة الاتحاد حرصوا على إبراز تجندهم لحل هذه المعضلة. وثالثا في تمحور الخطاب الحزبي اليساري حول قضية الديمقراطية، إذ كان لافتا أيضا أن الخطاب الموحد والمعبئ في مؤتمر الاتحاد الاشتراكي لم يتمحور حول ما يسميه البعض بالخطر الإسلامي أو الظلامي، بل ارتبط بقضية الديمقراطية، وما يصطلح عليه بعض قادة الاتحاد بالوافد الجديد في إشارة لحركة كل الديمقراطيين. كما لم تثر التصريحات التي صدرت حول وجود قواسم مشتركة مع حزب العدالة والتنمية أو الاستعداد للتنسيق في الانتخابات الجماعية القادمة أية انتقادات حادة مثل ما كان يقع في السابق، وهي كلها عناصر على وجود وعي إيجابي في صفوف القوة الأساسية داخل اليسار المغربي، وهي الاتحاد، بتجنب السقوط في فخ تجارب الاستئصال التي راهنت أن التحالف لضرب الإسلاميين يديم الوجود والفعالية. لا نريد أن نستبق نتائج المؤتمر، خاصة وقد كشفت الاستعدادات الخاصة به ثم تطورات اليومين الأولين من المؤتمر رغم ما قد يسجل من ملاحظات جانبية، عن وجود حيوية لمراجعة عدد من التوجهات ، وهي عناصر مشجعة لتوقع نحو من الحراك السياسي الإيجابي في المستقبل، وتجعل من خطاب إعلان وفاة اليسار المغربي مجرد أمان أكثر منه خطابا مسنودا بوقائع ملموسة.