من الصعب قبول التفسير الذي يعتبر ما يحدث في لبنان من اشتباكات بين المعارضة والموالاة على أساس أنه مظهر من مظاهر الصراع الطائفي، أو أنه ملمح من ملامح حرب أهلية لبنانية وشيكة، فمحددات الأزمة لا علاقة لها بالبعد الطائفي أو الديني، وإنما هي مرتبطة بالرهانات والأجندات السياسية. فالحكومة وقوى 14 آذار سواء تعلق الأمر بتوجيه عربي ودولي لإضعاف قدرات حزب الله وتدمير نقاط القوة التي تعتمدها المقاومة أو تعلق برهان سياسي محلي يروم باسم تقوية الدولة إلى ضرب بعض المواقع القوية لحزب الله، أخطأت التقدير السياسي حين اتخذت قرارين حساسين في لحظة اهتزاز سياسي في لبنان عنوانها الكبير هو أزمة الشرعية السياسية، فمسألة الاتصالات السلكية وقضية مدير أمن مطار بيروت بحساسيتها السياسية والأمنية والاستراتيجية في اللحظة السياسية التي خرجت فيها لبنان من حرب مع الكيان الصهيوني لا يمكن لحكومة مستقرة أن تطرحها للتداول فضلا عن حكومة تحوم العديد من الأسئلة حول شرعيتها في واقع سياسي يغيب فيه رئيس الدولة ودور البرلمان فيه معطل، وهو ما يعني أن القرارين المتخذين من قبل الحكومة وكذا التوقيت لا ينفصلان عن الضغوط السياسية والديبلوماسية التي تمارسها الإدارة الأمريكية وبعض الأطراف العربية على الحكومة اللبنانية من أجل إضعاف المقاومة الإسلامية في لبنان وشل قدراتها أو فك الارتباط الاستراتيجي بين لبنان المقاومة وسوريا الصمود. قد تبدو الاشتباكات التي أسفرت عن العديد من القتلى مخيبة لآمال مناصري المقاومة ممن كانوا يتمنون أن تنأى المقاومة عن الانخراط في المعارك السياسية الداخلية، وقد يذهب بعض المحللين إلى أن استراتيجية السيطرة والهيمنة على مواقع القوة هي جزء من اللعبة الإيرانية في المنطقة العربية ابتدأت في قطاع غزة بسيطرة حماس، وعرجت على بيروت بسيطرة حزب الله، لكن مثل هذه الأماني ومثل هذه التفسيرات لا تضع في حسبانها وتقديرها السياسي نقاط الاشتباك والتقاطع بين الاستراتيجي والسياسي المحلي، وهو ما سعت قيادة حزب الله إلى توضيحه حين اعتبرت قضية الاتصالات السلكية خطا أحمر يتعلق بقوة المقاومة وقدراتها وأمن الدولة وأن أي استهداف لهذه القدرات هو بمثابة إعلان الحرب على المقاومة تستوي في ذلك القوى الخارجية بالقوى الداخلية. ما ينفي أطروحة التفسير الطائفي، وأطروحة انقلاب حزب الله على الديمقراطية اللبنانية، أن قوى المعارضة سحبت كل مظاهرها المسلحة في بيروت بمجرد ما تبنى الجيش اللبناني مطالب المقاومة ورفض قراري الحكومة، وسيطر على مناطق الاشتباكات، وما يثبت ذلك أيضا أن قيادة المقاومة الإسلامية إلى جانب قوى المعارضة في لبنان أكدت من موقع سيطرتها على الوضع أن ما يهمها هو أن تسحب الحكومة قراريها، وأن ينطلق بعد ذلك الحوار حول تشكيل حكومة وحدة وطنية. وعلى العموم، فالجيش الوطني اللبناني الذي يفترض أن يكون المؤسسة الأولى المعنية باستتباب الأمن ورفض أي مظهر من مظاهر التسلح في العاصمة بيروت أو في طرابلس أو غيرها، رفض قراري الحكومة، وأعاد الكرة إلى ملعبها، وأظهر بما لا يدع مجالا للشك أن الأجندات السياسية الخارجية هي التي تتسبب في الفتنة، وأن رؤوسها هم الذين يكونون في الغالب أدوات لتنفيذ المطالب الأمريكية والصهيونية على حساب المصالح الاستراتيجية للوطن.