في لقاء جمعه, أواسط شهر أبريل من هذا العام, العام 2008, مع المشاركين في مؤتمر تجديد الفكر القومي والمصير العربي بدمشق, قال الرئيس السوري: بعد سقوط بغداد بيد الاحتلال الأمريكي بأسابيع قليلة, جاء وزير الخارجية الأمريكي كولن باول إلى دمشق, وكان يتحدث بفخر عما أنجزه جيشه في العراق, وفي مرات كان يقدم نفسه كقائد عسكري أيضا . وأضاف أن الوزير الأمريكي لم يطلب فقط إبعاد قادة المقاومة الفلسطينية من سوريا, بل أتى على أمر لم يسبق أن ذكرته, وهو أن على سوريا منع استضافة علماء العراق, ومنع استضافة المفكرين العراقيين على أراضيها, ليتبين في وقت لاحق أن القوات الأمريكية استهدفت هؤلاء, وقتل منهم من قتل . ليخلص إلى حقيقة أنه إضافة إلى التدمير الممنهج للمتحف الوطني العراقي, ونهبه وسرقة آثار العراق, ومن ثم تدمير البنية التحتية الفكرية, كان واضحا أن الأمريكيين يريدون العراق بلدا مدمرا من حيث تراثه, ومن حيث قدرته على الإنتاج الفكري . لم يعد الأمر إذن, أمر مطاردة واغتيال علماء العراق المحتل, مكمن تكهن أو مثار مزايدة, أو من قبيل أطروحة المؤامرة التي قد يعملها البعض ضدنا أو ضد من قالوا بذلك, بل بات أمرا مثبتا بشهادة رئيس دولة, سمع من فم فاعل مباشر لا يزال حيا يرزق. ولم يعد بالأمر سرا يذكر, إذ الأمريكان لم يكونوا متقصدين تدمير مقومات البلد المادية وبناه التحتية الأساس, ومفاصل الدولة المركزية من بين ظهرانيه فحسب, بل كانوا يتغيأون تدمير كل مقومات النهضة العلمية والتكنولوجية للعراق, إعمالا وتحقيقا للوعيد الذي أطلقه جيمس بيكر في وجه طارق عزيز, بجنيف في العام 1999: إذا لم تتعاونوا معنا, فسوف نعيدكم إلى عصور ما قبل الوسطى . وبقدر ما كانت العملية ثابتة والنية قائمة, فإنها كانت بالآن ذاته مرتبة, ومبيتة, ولم تكن اعتباطية أو مرتجلة. إنها لم تكن عبثية, بل كانت وليدة تخطيط مسبق ومدبر, ومدقق في تفاصيل تنفيذه. يقول الجنرال بروكس, من مقر القيادة المركزية الأمريكية, قبل شهرين من الحرب على العراق: إن واشنطن لها أهداف أخرى غير الإطاحة بصدام, على الأخص مقدرة العراق على تطوير أسلحة نووية أو كيميائية أو بيولوجية, ضمن برنامج القضاء على أسلحة الدمار الشامل . ويقول جاك بوت, رئيس بعثة الوكالة الدولية للطاقة النووية في العراق, شهورا قبل الحرب: يجب أن نحدد ما إذا كانت توجد قدرات نووية في العراق أم لا. وبالنسبة لي, فإن ذلك يشمل العقول والأسلحة . لا, بل إنه منذ بداية تسعينات القرن الماضي, كانت العقول العراقية مصدر خطر لدى صانعي القرار بالولاياتالمتحدة. يقول مارتن إنديك بالعام 1993: إن الاهتمام الأمريكي بالعراق يرجع إلى أسباب عدة, أهمها الخبرة العراقية الكبيرة والمتراكمة في مجال التصنيع العسكري والبحث العلمي, وهناك آلاف العلماء العراقيين الذين يشكلون بحق مصدر خطر في الشرق الأوسط, لأنهم قد ينقلون خبراتهم إلى دول عربية وإسلامية . وقد قالت مادلين أولبرايت قبله: ماذا نستطيع أن نفعل مع العراق غير تدمير عقوله, التي لا تستطيع القنابل الذرية أن تدمرها. فتدمير العقول العراقية أهم من ضرب القنابل . لم يكن النظام هو المقصود إذن, ولا النفط فحسب, بل أيضا العقول الثاوية خلف المشروع التكنولوجي والعلمي بالعراق, وإلا فما معنى أن تلح أمريكا على تضمين إحدى قرارات مجلس الأمن (القرار 1441) بندا لاستجواب العلماء العراقيين خارج العراق, قبلما تشن الحرب على بلادهم؟ كل شيء كان مرتبا إذن لاستهداف عقول عراقية, كان لدى الوكالة الدولية قائمة بأسمائهم وبمجال تخصصهم, سهلت على الأمريكان, وقد باتوا سادة العراق منذ التاسع من أبريل من العام 2003, معرفة أماكن تواجدهم, ومراكز عملهم, وخطوط تنقلهم داخل البلد...فتسنى لها بالبناء على ذلك, مفاتحتهم وتخييرهم للعمل بمختبراتها أو الاغتيال, وفي أحسن الأحوال تركهم بالعراق مع الانضباط لقانون الاحتلال, القانون الذي صاغته مبادرة رعاية العلوم والتكنولوجيا والهندسة , الذي أعدته الخارجية الأمريكية, وألزمت بموجبه من لم يرد من العلماء الهجرة, التعهد بالتزام عدم تقديم خبراتهم إلى دول معينة . إن العدد الضخم من علماء العراق الذين تمت تصفيتهم من لدن الأمريكان (أطباء ومهندسين وباحثين وجامعيين أكاديميين, ناهيك عمن كانوا خلف البرنامج العسكري العراقي مباشرة) إنما يشي بأن الجزء الأكبر من هؤلاء, لم يتم إغراؤه ولا استقطابه من لدن الأمريكان أو إسرائيل, بل كابروا وتمنعوا, فكان نصيبهم الملاحقة والاغتيال, من أمام منازلهم أو بالمدرج الجامعي حيث يدرسون, أو بالطريق الرابط بين منازلهم ومقرات عملهم. وقد بدأت عملية الملاحقة والقتل مباشرة بعد سقوط العراق تحت الاحتلال, إذ عرف شهر ماي من العام 2003 وحده, اغتيال 458 عالما وباحثا عراقيا, ليرتفع هذا العدد إلى 751 بيونيو ثم إلى 872 من نفس السنة. وتشير إحصاءات رابطة الأساتذة الجامعيين في بغداد, أن 80 في المائة من عمليات الاغتيال استهدفت العاملين في الجامعات، وأكثر من نصف القتلى يحملون لقب أستاذ أو أستاذ مساعد، وأكثر من نصف الاغتيالات وقعت في جامعة بغداد، ثم البصرة، ثم الموصل والجامعة المستنصرية، و62 في المائة من العلماء الذين تمت تصفيتهم, يحملون شهادة دكتوراه دولة من جامعات غربية، ثلثهم مختص بالعلوم والطب، و17 في المائة منهم أطباء ممارسون، وقد قتل ثلاثة أرباع الذين تعرضوا لمحاولات اغتيال، والربع الذي نجا فر إلى الخارج . لقد كتبنا من سنتين عمن لهم المصلحة في قتل عقول العراق, وقلنا ولا نزال نقول بالدليل الدامغ, إن أمريكا وإسرائيل هما صاحبتا المصلحة الأولى والأخيرة في ذلك, وقد باشروا تنفيذ مخططاتهم بمجرد دخولهم بغداد, حيث شرعوا في تقتيل من رفض عروض الهجرة, واختار البقاء بالعراق. وقلنا إن إيران ضالعة حتى النخاع في اغتيال الطيارين وتقنيي الهندسة والاتصالات, على خلفية من الثأر فيمن قصف أراضيها, بخضم حرب الثمان سنوات. وقلنا أيضا بأن لبعض دول المنطقة مصلحة ويدا في اغتيال ومطاردة والإيعاز والوشاية بقتل هؤلاء, ليبقى العراق ضعيفا إلى الأبد. وقلنا فضلا عن ذلك, بأن عصابات من جاؤوا مع زعماء العراق الجدد على ظهور الدبابات, ضالعون بقوة, وحكومات الاحتلال أيضا, إما بالتواطؤ المضمر أو بغض الطرف عما يجري, أو بحفظ ملف اغتيال هذا العالم أو ذاك. لكننا قلنا بالآن ذاته, بأن الأرض التي استنبتت هؤلاء, قادرة على استنبات آخرين, أبدع وأنبغ, أنا على قناعة تامة أنهم يشتغلون الآن لرفد المشروع الوطني الذي بناه الرئيس/الشهيد صدام حسين, وقدم روحه قربانا له أواخر العام 2006. صحيح أن الولاياتالمتحدة وإسرائيل استطاعا استقطاب جزء هام من علماء العراق (من ضمن العشرين ألف الذين غادروا العراق, ومن شتى الاختصاصات). وصحيح أن جزءا هاما من هؤلاء غادروا إلى بلدان الجوار, وباتوا هناك متخفين ضمن الشتات العراقي , لكن الدولتان فشلتا (باعتراف جريدة الدايلي تلغراف البريطانية ل 26 دجنبر 2007) في استمالة معظم العلماء العراقيين, للتعاون والعمل في الأراضي العراقية ...إنهم يفضلون الجوع والعمل بالمخابئ, على الانضمام لمشاريع يدركون جيدا أنها لن تخدم بالمحصلة مصلحة بلدهم, أو تصب في مصب نهضته. إن علماء العراق الذين هاجروا أو هجروا أو تم تهجيرهم قسرا, نجد لهم الشفاعة والعذر, ففي اختيارهم ذاك درء الشرين. وقد نجد لهم ظروف التخفيف أيضا, في ظل فوضى خلاقة , عاقدة العزم للإتيان على الأخضر واليابس. لكنهم لن يشتغلوا, حتى وإن وضعوا بأرقى مختبرات الغرب, إلا تحت القسر والإكراه, ولن تكون ثمة من قوة تجنيدية تحفزهم, وبلدهم من أمام أعينهم يحترق بسببهم...هم الذين بعث بهم الرئيس/الشهيد للتعلم بالخارج, وأبوا إلا أن يعودوا بعد اكتمال فترة دراستهم وتكوينهم, على الرغم من إغراءات الأغراب, والادعاء بأن لا مستقبل لهم بظل الديكتاتورية... صحيح أن نظام الرئيس/الشهيد كان صارما لدرجة القسوة بالعديد من الحالات, لكنه كان صاحب مشروع وطني نهضوي حقيقي...أدركته إسرائيل ببداية الثمانينات, عندما عمدت إلى تدمير مفاعل تموز, وتحرزت من تطوراته من حينه. لكنها لم تدرك ولن تدرك أبدا, بأن ذات المشروع غير مجمد بالمرة. إن هناك أناس قائمون عليه, لا نراهم ولا نعرفهم, لكنهم موجودون بقوة وثابتون... هناك ببلاد الرافدين.