يمكن القول بأن طبيعة العلاقة بين الدولة والحركات الإسلامية مرت بعدة مراحل، في السابق كان العمل السياسي لدى الحركات الإسلامية يعاني من أزمات عميقة، مرتبطة بالأبنية الفكرية والإيديولوجية، وانعكس ذلك على مستوى الخطاب والبرامج ورسم استراتيجيات العمل السياسي، وطبيعة الأجوبة المقترحة، التي تفتقر إلى اجتهادات مبدعة، وتنحصر في مقولات نمطية وتقليدية جامدة، وهو ما استدعى في مرحلة الثمانينات وبداية التسعينات ضرورة تعميق النقاش حول الإسلام والديموقراطية، وفض الاشتباك المفتعل بينهما، وتجذير ثقافة الديموقراطية في وعي التيار العريض من الجمهور الإسلامي، كما عانى العمل الإسلامي في المرحلة السابقة من ضعف تقدير العوامل المحيطة بالفعل السياسي، والمؤثرة في صناعة القرار السياسي في المنطقة العربية والإسلامية، وخاصة ما يتعلق بدور العامل الخارجي، وسط نظام دولي تتحكم فيه مفردات القوة والمصالح الاستراتيجية، أكثر من مفاهيم السيادة ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. وقد تطور الفكر السياسي لدى الإسلاميين إلى درجة كبيرة وقطع أشواطا معتبرة في التأصيل لمفاهيم الحرية والديموقراطية والإيمان بالتعددية وبالتداول السلمي على السلطة على قاعدة الشرعية الديموقراطية. لكن طبيعة التحولات التي تعرفها المنطقة العربية والإسلامية لم تعد تسمح بالقول بأن هذه المراجعات كافية للتحكم في طبيعة العلاقة بين الدولة وجميع الاتجاهات السياسية الديموقراطية بما فيها الاتجاهات الإسلامية. اليوم، يمكن القول بأن الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي هو الذي يتحكم في طبيعة هذه العلاقة، فالحركات الإسلامية في العالم العربي تجد نفسها أمام أنظمة تمر بأزمة اقتصادية واجتماعية وتفتقر إلى الشرعية السياسية الديموقراطية، وهي وضعية تزعج القائمين على شؤون الدولة وتشعرهم بالقلق اتجاه التيار الإسلامي الذي يتميز بحضور ميداني ويحظى بمصداقية أخلاقية بالموازاة مع فشل تجارب الأحزاب الأخرى، وتنامي ظاهرة الفساد المالي والإداري وانعكاساته على الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، وتزايد التفاوت الاجتماعي الحاد بين الأغنياء والفقراء، وعجز الحكومة عن التقليص بين الفوارق الاجتماعية الحادة، والتبعية الشديدة للخارج على المستوى السياسي والثقافي والاقتصادي، وارتهان المؤسسات المعنية بصناعة القرار بما تراه النخب الحاكمة في الغرب. في مقابل ذلك يلاحظ تنامي حركة التدين بين الشباب بشكل يتجاوز قدرة كل من الدولة و الحركات الإسلامية المعتدلة على الاستيعاب والتأطير، بالإضافة إلى التحولات التي يعرفها النظام الدولي والاختيارات الأمريكية الخاطئة في المنطقة العربية والإسلامية والتي تزيد من غضب الشارع العربي وحنقه من الأنظمة المتحالفة مع الإدارة الأمريكية. هذه المعطيات تجعل الأنظمة السياسية في العالم العربي أمام أزمة شرعية سياسية حقيقية، وتخلف الانطباع لدى رجل الشارع العادي بأن الحركات الإسلامية تمتلك القدرة الخارقة على حل مشاكل المجتمع. إننا أمام بيئة سياسية مواتية، لتحمل الاتجاه الإسلامي إلى مستويات عالية من الشعبية، تتجاوز قدرتها على الاستيعاب والتحكم، ويزيد من حجم هذه الشعبية قدراتها التنظيمية المتماسكة وأداؤها النيابي المتميز. أمام هذه المعطيات تجد بعض مراكز النفوذ ممثلة في الجيش وفي بعض مجموعات المصالح الاقتصادية ، بالإضافة إلى مراكز النفوذ الخارجي، نفسها أمام سيناريوهين مختلفين إما: اعتماد استراتيجية الاستبعاد والإقصاء، أو اعتماد استراتيجية إدماج التيار الإسلامي في إطار النظام السياسي. بالنسبة للأنظمة التي اعتمدت استراتيجية الإدماج فهي كانت تعتقد بأن الأمور ستتجه نحو السماح بتأسيس حزب إسلامي يتم ترويضه بحيث لا يهدد إدماجه في مؤسسات الدولة الاختيارات الكبرى للنظام، بل على العكس من ذلك سيضفي صورة من التعددية و الديموقراطية، كانت هذه الأنظمة في أمس الحاجة إلى تسويقها على المستوى الخارجي. لكن في كل محطة انتخابية تجد هذه الأنظمة نفسها أمام محك كبير: أولا، النجاح في إضفاء صبغة النزاهة على الانتخابات. وثانيا، طمأنة الدول الغربية على مصالحها الحيوية، بعد حالة الهلع التي تنتشر في الأوساط السياسية والإعلامية الغربية كلما كانت التوقعات تشير إلى فوز الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية بالانتخابات، بحيث تبدأ الصحافة الأوروبية تتحدث عن تهديد الثقافة الغربية ، ويبدأ البعض يتساءل عن مصير المسرح والسينما وبرامج التلفزيون والجرائد والمدارس التي تعتمد اللغات الأجنبية، والبعض الآخر يطرح تساؤلات عن مصير منطقة شمال إفريقيا والعالم العربي، وهل هذا يعني عودة الإسلام كقوة في الساحل الجنوبي لحوض البحر الأبيض المتوسط وإلى منطقة الشرق الأوسط، ومدى انعكاساته على التوازنات الإقليمية بالمنطقة. هذه المعطيات بدورها تخلق اختلافات داخل العلبة السوداء لصانع القرار السياسي بين أطراف السلطة في هذه الدول ، بين اتجاه يرى تغيير استراتيجية الإدماج المتدرج والانتقال إلى استراتيجية الاستبعاد واتجاه آخر يرى الاستمرار في استراتيجية الإدماج لكن بنفس غير ديمقراطي، مع اعتماد لغة الهجوم الإيديولوجي والسياسي المدعوم من طرف صحافة الخصوم السياسيين للإسلاميين، و نهج سياسة محاصرة الإسلاميين والتضييق على مراكز نفوذهم وذلك باعتماد قوانين جديدة في المجال الانتخابي تخدم إرادة الضبط والتحكم القبلي في النتائج الانتخابية، وسن قوانين في مجال الإصلاح الديني تروم الحد من تأثير الخطاب الإسلامي في السياسات العامة وجعله محصورا في المساجد، بطريقة تنزع عنه أي جاذبية، بما يؤدي إلى تخفيض شعبية الإسلاميين، واللجوء في بعض الأحيان للغة القمع والاعتقالات دون أن يعني ذلك اعتماد الاستبعاد النهائي، وهو ما يعني أن المرحلة القادمة ستكون مرحلة شذ وجذب بين الاتجاه الديمقراطي الإسلامي وبين الدولة . وهو ما يفرض على الحركات الإسلامية إعادة قراءة مفردات الواقع السياسي والتعامل معه بذكاء، وتدقيق خطابها السياسي، والحذر من ارتكاب أي خطأ يمكن توظيفه ضدها بأي شكل من الأشكال.