كنت أشعر بجوع شديد، هرعت إلى المطبخ وأعددت وجبة عشاء بسيطة، وضعت بعض الأطباق الصغيرة على مائدة الطعام، وتحلقت وأسرتي الصغيرة لإسكات سلطان الجوع الذي تحرك في داخلنا. إنها العاشرة مساء، موعد أخبار المغرب العربي على قناة الجزيرة، لا بأس بتناول هذا العشاء ونحن نتابع ما يحدث في العالم، فقد صارت عادة مشاهدة التلفاز لصيقة بكافة الوجبات الغذائية أو لكأنها تلك المقبلات التي نستدعي شهية الأكل عبر بوابتها. ورغم أننا حاولنا تغيير هذه العادة إلا أننا لم نستطع. هاهو المذيع يمخر عباب مقدمته المعتادة ويرحب بنا نحن المشاهدين، ويفتتح بصور لأطفال غارقين في دمائهم، وأمهات تنتحبن ورضع يعانقون الموت قبل أن تقبلهم الحياة. تعلقت نظراتنا بهذه الصور، وتبخر الجوع الذي كان يسكننا، حانت مني نظرة إلى طفلي الصغيرين فوجدت أعينهما معلقة بالتلفاز، إبني الذي يبلغ من العمر أربع سنوات أحس بنظراتي تخترقه فالتفت إلي والابتسامة قد رسمت بهاءها على محياه وقال كيقتلوهم. أما ابنتي ذات السنتين فقد علقت ببراءتها: مومو.. ماماه كتبكي. قشعريرة باردة سرت في أوصالي، فلست أدري كيف أجيب وبماذا أعلق، اكتفيت بتحويل أنظارهم إلي عوض النظر إلى التلفاز ومتابعة أشياء لا يفهمونها ولا قبل لي حتى بتفسيرها. كيف أشرح لطفل صغير ما يتعرض له أطفال آخرون في مثل سنه، من أذى وتقتيل، كيف أفسر نحيب أمهات فقدن أعزاءهن وضاع منهن جزء من ذواتهن، كيف أعلق على صورة طفل رضيع تلفع بالموت وتوارت ابتسامته البريئة بعد أن هاجمته أشباح الشر والدمار. لقد غير القصف الهمجي ملامح كل شيء، ولم يترك شيئا إلا وطبع بصماته البربرية فوقه، رضاعات الصغار أخالها مبللة بالدم وكراسات الأطفال يختلط رسم الشلال فيها بماسورة الدمع في عين الأمهات الثكلى. وألعابهم النارية البسيطة، لكأنها أسلحة العدو أمام صدورنا العارية، وعيون العالم المفقوءة. غيرت المحطة، إلا أن صور الجثث لم تغادرني.. صور الفزع المرسوم على وجوه الأطفال يلح على مطاردتي، وإحساس فظيع بالضعف والأسى يأبى أن يفارقني. أتساءل بيني وبين نفسي كيف يعيش هؤلاء، هل يبتسمون مثلنا، هل يأكلون، هل يحلمون، كيف يتجاوزون ألم فراق الأحبة بل كيف ينسون أشلاء أعزائهم وهو يعانقونها للمرة الأخيرة، في قلب هذا المستشفى المزدحم بالجثث والجرحى، وتلك المشاهد التي حرمتنا شهية الأكل وهي لا تغدو عندنا، مجرد صور باردة في نشرة إخبارية؟