من غريب ما يحدث في هذا البلد أن أناسا يتوارون عن الأنظار فلا تكاد تسمع لهم صوتا، لكنهم سرعان ما يظهرون على الواجهة كمحللين للوضع السياسي يحددون الوصفات السريعة ويلقنون الدولة الدروس في طريقة التعامل مع الحركة الإسلامية، وهذا يعكس مشكلة الفكر الاستئصالي الذي لا يجد من مبرر للوجود سوى استهداف الحركة الإسلامية واستعداء الدولة ومكونات المجتمع عليها. عبد الكريم الأمراني الذي قدمته الزميلة الصباح بوصفه باحثا مختصا في الحركة الإسلامية!! خرج بعد طول غياب ليذكر بأطروحته الاستئصالية، ويتهم الحركات الإسلامية بأنها تنتهج أسلوب التوغل في المؤسسات السياسية للبلد وتتبنى العمل الشرعي من أجل الإجهاز عليه، والغريب أنه حدد خمس سنوات أو عشر سنوات كسقف زمني لإثبات صحة ادعائه، وطالب الدولة بالدخول في مواجهة إيديولوجية وسياسية مع الحركة الإسلامية من أجل التمكين للديمقراطية!! وعلى نفس المساق، مع بعض الاختلاف، اتجه محمد البشير الزناكي والذي قدمته أسبوعية المشعل باعتباره الناطق الرسمي باسم حركة لكل الديمقراطيين في معرض تبرير رفض الحركة الحوار مع العدالة والتنمية، إلى استدعاء خطاب يرتكز على أنه من الصعب القول بأن من لايؤمن بالحريات الفردية والجماعية ولا يتبنى المساواة بين النساء والرجال ويعتنق التمييز العرقي والديني يمكن أن يحسب على الصف الديمقراطي، مع حرصه على القول بأن الحوار الثنائي ليس إلزاميا ولامنبوذا، وأن اختيار عدم اللقاء بهذا الحزب له أسبابه الظرفية ولايعني عدم التحاور معه بشكل مطلق في المستقبل. ولهذا لانستبعد أن تظهر مقالات تستثمر الظرف الأمني لتفتعل معارك مع مكونات الحقل الديني تسير على منوال ماكتبه مصطفى العباسي في الأحداث المغربية لعدد أمس عن فراغ التأطير الديني بالناضور والنواحي واستغلال تيارات أصولية لهذا الفراغ، ولم يستبعد أن يكون بعض أعضاء شبكة بلعيرج المعتقلة حاليا هم ضحايا التأثير القوي للخطابات الدينية!! بل تعدى الأمر ذلك للحديث عن مؤسسات تربوية بعينها في بعض المدن تم وصفها بكونها التربة المولدة للإرهاب والتطرف. المشكلة أن الفكر الاستئصالي لم يقدم إلى اللحظة الراهنة للأمة جديدا، ولا يظهر من رموزه مساهمة إيجابية في دعم مسار الديمقراطية والحريات في البلد، وغاية ما يشغله، بل مهمته الأولى والأساسية هي دفع الدولة إلى تبني خيار الاستئصال الشامل الذي تحضر فيه المواجهة الأمنية إلى جانب المواجهة السياسية والإيديولوجية. بمعنى من المعاني، مهمة الاستئصاليين هي إيقاف كل الرصيد الذي قطعه المغرب في مجال التأسيس للتجربة الديمقراطية والانصراف إلى تدمير البنية الفكرية والتنظيمية والسياسية للحركة الإسلامية. على أن هذه المواجهة الشاملة في عرف الاستئصاليين لا تنحصر فقط في الحركة الإسلامية، بل تمتد إلى كل الأطر الفكرية والمرجعية والسياسية التي يفهم منها إمكانية التحالف الظرفي أو الاستراتيجي مع الحركة الإسلامية. ولذلك فلا عجب أن يصف الأمراني بعض مواقف الأستاذ خالد السفياني بالقومجية في إشارة منه إلى التيار القومي الإسلامي الذي يطرح أولوية التنسيق مع التيار الإسلامي لمواجهة التحديات التي تعيشها الأمة ولخوض معركة الديمقراطية محليا. هناك جهات استئصالية لا يهمها أن يتقدم المغرب نحو مراكمة رصيده في دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا يهمها أن يتعزز العهد السياسي الجديد الذي قطع مع تجربة الماضي وانفتح على كافة التيارات بما في ذلك قطاع معتبر من الحركة الإسلامية. وإنما يهمها فقط أن تدفع الدولة إلى المواجهة ولو كان ذلك يضر بسمعتها ورصيدها. مصلحة البلد في فعل إيجابي يحافظ على مكتسبات العهد الجديد، ويفتح الأمل للمغاربة في استمرار التجربة الديمقراطية، ويدفع شرائح واسعة من الشعب لإعادة الثقة في العمل السياسي والمشاركة في الانتخابات. لقد أثبتت التجربة أن السعي وراء الجهات الاستئصالية يضر بمصلحة المغرب، ويضع تجربته السياسية والديمقراطية كلها في دائرة النكوص والارتداد. إن التجربة الديمقراطية لا تتحقق بالنوازع الفاشية، ولن تمضي خطوة واحدة في الاتجاه الصحيح إذا لم يتم تجاوز هذه الأطروحات الاستئصالية.