في حي مليء بالبشر تعيش وحيدة، وفي زمن تكسوه أشواك غلاء الأسعار تعيش مريضة، وفي عالم يسير بأسرع الخطوات تعيش حياتها معتمدة بعد الله على عكاز يجول بها في أرجاء بيتها الذي لا تفارقه إلا لزيارة طبيب أو قضاء حاجة ماسة. وبين جدران لا ترويها إلا الدموع والأحزان المزينة ببعض الابتسامات المستخرجة من بين آبار الذكريات الحرى تحكي لـ>التجديد< عن مسار حياة انتهى بها وحيدة. فارقت مسقط رأسها بالصويرة متجهة نحو عاصمة المملكة لتسدي خدمات جليلة لأسر نصرانية، ليحط بها مشوار الحياة وهي في السبعين من عمرها في بيت بالحي الشعبي أمل 5 بحي يعقوب المنصور. إنه توصيف مختصر لحال صابر كبيرة وهي ربما اسم على مسمى، فهي صابرة على حالها وهي ابنة السبعين من عمرها كما تدل على ذلك بطاقة تعريفها الوطنية التي تؤكد أيضا أن مهنتها شغالة. خادمة ببيت شغالة تسكن كبيرة صابر غرفة في منزل متوسط بحي الأمل 5 بالرباط قالت إن شخصا تبرع لها بثمن كراء هذا السكن ولا تؤدي غير فاتورة الماء والكهرباء التي قد تفوق قيمتها شهريا 200 درهم. لا تقوى كبيرة على الخروج ما دامت رجلاها تؤلمانها بسبب مرض الروماتيزم، ولا يكسر صلابة وحشتها سوى صديقة لها كانت زميلة لها في مهنة شغالة تقضي لها بعض أشغال البيت، وفي حالة غيابها تضطر كبيرة لاستدعاء سيدة أخرى تقضي لها الأشغال بمقابل مادي، فهي الأخرى لا ينقصها فقر ولا حاجة وهي الأم لأولاد تكثر طلباتهم في زمن غلاء الأسعار القاهر لأصحاب الدخل بله الذين ليس لهم دخل. ولا تنكر كبيرة جميل كثير من الناس الطيبين الذين يزورونها ويتفقدون أحوالها الصحية والمادية، منهم بعض الوافدين من الصويرة بحكم أنها بنت البلدة، ومنهم محسنون يلتفتون إلى حالتها وحالات مشابهة لها، ومنهم بعض الأصدقاء الذين كانوا يزورون الأسر التي كانت هي شغالة عندها. غرفة أم متحف؟ الزائر لبيت كبيرة قد يقف مشدوها أمام قلة حركتها ومنظر بيتها الذي يكاد يتحول إلى متحف، فكل ركن منه مرتب بعناية، صور الملك محمد السادس مع ولي العهد مولاي الحسن، إلى جانب صور النصارى الذين كانت شغالة معهم، ومعها صور القطط فهي من محبي هذه الحيوانات الأليفة، وتجد متعة في تقديم أسمائها للزائرين، فهذا القط مينو وهذه القطة يوسيت... ورغم أن التلفاز الذي اشترته لها النصرانية قبل وفاتها يأخذ مكانا مركزيا في الغرفة فإن المذياع والمسجلة لهما مكانة خاصة عند كبيرة فهي إن كانت لا تخرج فهي تحاول أن تعوض بالاستماع للبرامج والأخبار، والأشرطة السمعية دينية وفنية. ولا تزال كبيرة تحتفظ بأثاث الزينة يرجع تاريخه إلى عقود مضت، ومنه ما صنع بالفضة ومنه النحاسي والخشبي والزجاجي.. والكل مرتب بعناية حتى يخيل للزائر أنه في متحف وليس في غرفة لامرأة بلغت السبعين من عمرها وأخذت السنون منها مأخذها. من الفيلا إلى الغرفة قبل وصول كبيرة إلى هذه الغرفة مرت حياتها بمنعطفات قوية كادت تعصف بها في عالم الرذيلة لولا لطف الله، فقدت والدتها قبل بلوغ 15 سنة بالصويرة ليتزوج الوالد وينطبق عليها المثل الشعبي: اللي مات أبوه يتوسد ركبة أمه واللي ماتت أمه يتوسد العتبة، واستجابت لأول دعوة تلقتها من بقال حيها تتعلق بأسرة نصرانية تريد خادمة، ونجحت كبيرة بفضل أمانتها في كسب ود هذه الأسرة النصرانية، واستطاعت أن تساهم بحصة الأسد في تربية ستة أبناء للنصارنية التي كانت تعمل في سلك التعليم. انتقلت الأسرة النصرانية من الصويرة إلى الرباط ورافقت معها كبيرة الخدومة الثقة، هذه الصفات ستشكل جواز المرور لكبيرة من بيت الأسرة الأولى إلى بيت الدكتور شارلو صاحب المختبر المجاور لمقهى باليما الرباط (قرب مجلس النواب)، وبعد وفاته تستقر كبيرة لمدة ثلاثين سنة مع النصرانية فييا إلى أن ماتت. وعاشت كبيرة مع فييا معززة مكرمة في فيلا بحي حسان تقوم بأشغال الطبخ في ما تقوم خادمات أخريات بشؤون النظافة، وكان لها بيت كبير بالحمام وسط الفيلا تزورها صديقاتها، بل وحينما بلغ المرض بوالدها مبلغا أتت به ليسكن معها بالفيلا إلى أن وافته المنية ودفن بمقبرة الشهداء. وتحكي كبيرة عن النصرانية فييا أنها كانت تحترم إسلامها بل وتقدم لها مساعدات لتحتفل بالمناسبات الدينية وإقامة الشعائر الإسلامية، ولم تكن كبيرة تقدم الخمور للنصارى رغم أنها لثقتها كانت المشرفة على الطبخ، وذلك لأنها طلبت منذ البداية أن يتم احترامها في هذا الجانب. أما أجرة كبيرة فكانت النصرانية تودع لها في حسابها البريدي الخاص مبلغ ألف درهم شهريا ليصل المبلغ حين وفاة النصرانية قبل ست سنوات 6 ملايين سنتيم، لم يبق منه الآن سوى الثلث نظرا لأنها تأخذ منه باستمرار لمصروفها ألف درهم شهريا. وتتأسف كبيرة لكون النصرانية كانت تود أن تكتب لها وصية لكن المنية وافتها قبل تحقيق هدفها. وما إن مرت سنة على موت النصرانية التي تركت كبيرة وحيدة في الفيلا حتى وجدت هذه كبيرة مضطرة إلى مغادرة المسكن لأن أحدا من أصدقاء المتوفاة أخبرها بأن المسكن تم بيعه وصاحبه محتاج إليه دون أن تعرف تفاصيل أخرى. هنا وجدت كبيرة نفسها منساقة إلى واقع آخر غير الذي كانت تعيشه. فبعد أن أكرمها النصارى وهي قوية السواعد معطاءة وجدت أيادي المسلمين تمتد إليها وهي عاجزة عن العطاء، والشيء الوحيد الذي ما تزال تقوى عليه هو ابتسامتها في وجه الزائرين ونصائحها للفتيات اللواتي تضطرهن ظروف العيش لمغادرة بيت الأسرة. تهمس كبيرة في أذن كل فتاة قست عليها ظروف العيش أن لا تستسلم لنزوات ذئاب الشارع معتبرة الجد والاجتهاد والثقة رأسمال قوي يجب استثماره، وتعتز أنها رغم أنها آنسة في السبعين من عمرها لم تفكر في العلاقات غير الشرعية رغم أن سبيلها لم يخل من تحرشات ومحاولات ذئاب بشرية باءت بالفشل. مصير معلق إلى حدود الساعة ما تزال كبيرة تنفق مما خبأته لها النصرانية، ويكاد هذا المخزون ينفذ، خصوصا مع غلاء أسعار المواد الغذائية، ورغم ذلك تحيط كبيرة زائريها بالعناية ولا تبخل مما عندها من مأكولات فهي تؤكد أنها متشبعة بفكرة الساخي حبيب الله، وهي حريصة كل الحرص على النظافة والأناقة، ورغم عجزها عن المشي فهي تركب سيارة الأجرة كل جمعة لزيارة قبر والدها بمقبرة الشهداء، ورغم أنها لا تعرف مصيرها فهي تشدد على أن التسول شيء مقرف ووصفته بـ شي حاجة هابطة ويمس الكرامة. إنها في مسارها كبيرة رغم كبر المشاكل التي عانتها، وصابرة رغم ما تعانيه من وحدة وغربة، إنها اسم على مسمى، فهي فعلا كبيرة صابر، وأيقنت أن الوحدة سيف لا يقطعه إلا تآزر المحسنين والقلوب الرحيمة.