قبل أن نعرج على بعض مظاهر القصور في ثقافة الإنجاز وتجلياتها دعونا نتكلم في بضعة سطور عن المنطق الخطابي الدي هو السمة المهيمنة في سلوكنا. وجب أن نميز بادئ ذي بدء بين الخطابة باعتبارها آلية تواصلية هامة تقوم على حشد الهمم وزرع الأمل واستثارة الوجدان والعاطفة وتشخيص المعطيات بعيدا عن برودة العقل ومنطقه الجاف ، أقول وجب أن نميز بين الخطابة وبين المنطق الخطابي أي حين العقل حين الفكر مسيرا بالعواطف والغرائز و محكوما بردود الفعل وعد القدرة على التمييز بين مجال التأثير ومجال الاهتمام . المنطق الخطابي إن جاز أن نسميه منطقا ينشغل بدائرة الاهتمام ويترك مجال دائرة التأثير ، أي ينشغل بالمأمول المستحيل عن الممكن المقدور عليه . المنطق الخطابي يختزل التاريخ ومساره وحقائقه ، ويعتقد بالإمكان القفز على الحقب التاريخية وعلى الأسباب والشروط اللازمة للإنجاز والقفز على السنن و يستبطن الإيمان بالمعجزات والخوارق ، ويعتقد أن الإسلام يكرس فكرا غيبيا ،ولا تقصد بالغيب هنا الإيمان بالله وملائكته وكنبه ورسله والبوم الآخر والقدر حيره وشره ، فتلك عقيدة ثابتة عند كل مسلم ، ولكن نقصد بالتفكير الغيبي استدعاء عوامل غيبية لتنوب عن الفعل الإنساني حيث مجال الفعل الإنساني , المنطق الخطابي فكر يكرس عقدة الذنب لدى الجيل الحاضر ، إذ يحاكمه إلى نموذج تاريخي ذهني ، تم إنتاجه في الأدب التربوي وفي أدبيات التوجيه الأخلاقي ، من أجل التحفيز على السمو والاقتداء ، علما أن كل نموذج ذهني يقفز على عدة معطيات واقعية ونقائص بشرية . المنطق الخطابي يحمل هذا الجيل مسؤولية تصحيح أخطاء امة بكاملها ن أخطاء تراكما عبر التاريخ ، ومن ثم يغيب سنة التراكم وسنة التدرج . المنطق الخطابي تبعا لذلك ينشىء لدى أصحابه ورواده توترا ناشئا عن الإحساس بفظاعة التناقض بين الواقع والمثال ن بين الممكن والمأمول ، ولذلك فهو بدل أن ينشئ ثقافة المشاركة القائمة على إنجاز ما هو ممكن ، ينشىء لديهم ثقافة رافضة قد يكون مظهرها السلمي البسيط هو الانزواء والانسحاب الناشئان عن الرغبة في الطهرانية والمحافظة على نظافة الذات ، أو من خلال ثقافة الرفض والعزوف عن المشاركة بجميع أشكالها ومستوياتها وقد يكون تعبيره العنيف هو الاصطدام مع المجتمع ومع النظام السياسي والنظام الثقافي والنظام الأخلاقي ، ولنظام الاجتماعي إلى غير ذلك من الأنظمة ، وهو ما يعبر عن نفسه إما من خلال ثقافة التكفير ومن خلال تيارات الغلو والتطرف بكل أشكالها وأنواعها . المنطق الخطابي يعشق المعارك الكبرى على الواجهات وتستهويه الأضواء والواجهات الإعلامية ويستسهل العمل فيها ، بينما يضيق بالعمل اليومي الدؤوب على ساحات البناء التربوي والأخلاقي والثقافي الهادئ . ولذلك فالمظق الخطابي غير قادر على بلورة رؤى مخططات ذات أبعاد استراتيجية ، وحتى إذا بلوه ا فهو غير قادر على الصبر على إنجازها . وعلى هذا المستوى يكمن تفوق الحركة الصهيونية . فهي قبل أن تنشئ دويلة في فلسطين كانت قد تمكنت من الاقتصاد ومن الإعلام ومن آليات إنتاج الثقافة ، وكانت قد شكلت لوبياتها الضاغطة في أكبر الديمقراطيات الغربية ، وصارت هذه تأتمر بأمرها ولا تعصي لها أمرا ، فصارت الحركة الصهيونية هي الحاكم الفعلى من وراء الستار، والمؤثر الحقيقي في دواليب اتخاذ القرار . وفي كثير من الأحيان صارت لها القدرة على إلهاء المسلمين وغيرهم من الشعوب العاطفية بمعارك هامشية على غرار لعبة مصارعة الثيران الإسبانية . والدليل على ما نقول هو التحركات العاطفية المتدفقة التي تظهر عند ما تتعرض شعوب إسلامية لمذابح جماعية أو غزوات عسكرية في البلاد الإسلامية مثل فلسطين والشيشلن والبوسنة والعراق وأفغانستان ـ وهذا أمر محمود ودليا على الحياة ـ ، في مقابل ضعف القدرة على التعبئة ومواصلة تجنيد وسائل التأثير في مواجهة مخططات الإبادة للذاكرة وللتاريخ وللمعالم الحضارية التي لا ترى لها نتائج مباشرة ، وضعف القدرة على وضع مخططات استراتيجية للمواجهة ، وملء الساحات الفعلية والممكنة للتأثير. للأسف الشديد فإن ضعف ثقافة الإنجاز وسيادة المنطق الخطابي يرجع إلى ضعف تبصرنا بمنهج القرآن الكريم وسنن التدافع التي أشار إليها مثلا نفكر مثل ابن خلدون . ومن أعظم إشاراته في هذا الميدان تأكيده أن الأنبياء وهم من هم لم ينتصروا بالخوارق ولا بخرق العوائد وإنما أخذوا بالسنن كل حسب عصره ، وكل من خلال استخدام منطق عصره يقول ابن خلدون : إن كل أمر تحمل عليه الكافة لابد له من العصبية. وفي الحديث الصحيح (ما بعث الله من نبي إلا في منعة من قومه) وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم ؟ ألا تخرق لهم العادة في الغلب بغير عصبية ويقول أيضا : ومن هذا الباب، أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء . فإن كثيرا من المتمثلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون للقيام على أهل الجو ر من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه، والأمر بالمعروف رجاء الثواب عليه من الله، فيكثر أتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء، ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين، لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم، وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه. قال(ص): (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه) وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها لا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما قدمناه .وهكذا كان حال الأنبياء عليهم السلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب، وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء، لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة والله حكيم عليم. فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب وكان فيه محقا, قصر به الانفراد عن العصبية فطاح في هوة الهلاك, وأما إن كان من الملبسين بذلك في طلب الرياسة فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك، لأنه أمر الله لا يتم إلا برضاه وإعانته والإخلاص له والنصيحة للمسلمين، ولا يشك في ذلك مسلم ولا يرتاب فيه ذو بصيرة . لا يزال لدينا نقص فظيع في فقه الممكن وفي فقه الإنجاز ومن ثم في فقه آليات إنجاز الممكن ، ونقص على مستوى القدرة على المراكمة في ظل منظور استراتيجي واحد ، ونقص في ثقافة التخصص، وميل إلى شغل كل المساحات واستنساخ التجارب واستنزاف الجهود. لا يزال لدينا ذلك التباعد الممقوت بين القول والفعل الذي أشارت إليه سورة الصف في قوله تعالى : كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون .. وللحديث بقية