مهنة لا تخلو من المتاعب، يعيش أصحابها في صراعات دائمة مع لقمة العيش ومع انعدام توفرهم على محطة قارة، يسمعون في كل يوم أنواعا كثيرة من الشتائم، وإن كان مقرهم مجاورا للأحياء السكنية، فهمومهم لا تنتهي مع الساكنة التي يزعجونها ليل نهار، وبين عدم رضاهم على الوضع وعدم تقبلهم لأن يكونوا عالة على الآخرين رغم أنهم يدفعون أجرة المحطة التي لا يتوفرون عليها، كل ستة أشهر، وتبلغ قيمتها 400 درهم، وبين من ينبذ حالهم ومن يشفق عليهم، يعيش سائقو سيارات الأجرة الكبيرة في الرباط معاناة لا تنتهي. 54 سنة من العمل دون أي ضمانات با الزعري كما يلقبه أصحاب سيارات الأجرة الكبيرة، شاب رأسه وهرم جسمه وسط السيارات، زاول الحرفة منذ 54 سنة، إذ بدأ أولى حكاياته مع العمل كسائق أجرة سنة 1954، وهو اليوم يعرف جميع أسرارها وخباياها، منذ أن كان الناس يستعملون العربات التي تجر بالخيول، إذ عمل بها وكان من الأوائل الذين عملوا في سياقة سيارة الأجرة بالرباط، غير أن الميدان لم ينصفه كما صرح بذلك في تصريح لـ التجديد ، ف با الزعري الذي يبلغ اليوم من العمر 74 عاما، قد تعب جسده من العمل، وتاقت روحه إلى الراحة والنعيم بحصاد ثمرة سنوات مرت في التعب والكد، لكن الزمن لم ينصفه، ولم تنصفه الحياة، وبقي يزاول عمله إلى يومنا هذا رغم أن قدرته قد ضعفت، وقد عبر عن ذلك بقوله: دوزنا مزيان، دابا عيينا صافي . ف الزعري لم تعد له القدرة على العمل، ويتذكر بحسرة أياما وسنوات قد خلت، إذ أن مستلزمات الحياة المعيشية لم تكن مرتفعة آنذاك، وما كان يدره من دخل يتراوح بين 30 و 35 درهما كان يكفيه للعيش الجيد، زيادة إلى أن أجرة المنزل الذي كان يكتريه لم تكن تتعدى 35 درهما شهريا، أي أن ما يدره عليه عمله من دخل في اليوم الواحد يكفيه لتغطية أجرة كراء المنزل شهرا كاملا، أما اليوم وبعدما خارت قواه وأصبح يحلم بالراحة، دون أن يجد من يشعر بتعبه، فقد أصبح يعيش في دوامة من الخوف من المجهول، ويخشى أن ينهش وأفراد عائلته بأنياب الزمن التي لا ترحم، خاصة وأن ابنه البكر الذي تجاوز الثامنة والعشرين عاما ما يزال عاطلا وينتظر المصروف اليومي من والده. با الزعري تاريخ متحرك لسيارات الأجرة، يعرف أسرارها وخباياها منذ زمن الاستعمار، منذ أن كان يعمل سائقا لعربات النقل الحضري، في 1954، ومنذ أن دخلت سيارات الأجرة إلى مدينة الرباط بعددها القليل الذي لم يتجاوز آنذاك 35 سيارة أجرة كبيرة، ومنذ أن كان عدد حافلات النقل الحضري قليلا جدا، ومنذ أن كانت رخصة السياقة لا تكلف سوى 30 درهما، ومنذ أن كانت لاكريمات في يد المستعمر. با الزعري يحتفظ بذكريات جميلة عن الماضي، ويتوق إليه، ذلك الزمن الذي عاش فيه سنوات شبابه الحالمة بتحقيق مجموعة من الانجازات في المستقبل، غير أنه وجد نفسه اليوم أمام الأمر الواقع، وأن كل ما كان يحلم به بقي مجرد حلم. لأنه لم يحقق من ذلك سوى مصارعة يومية مع المصروف اليومي، وفواتير شهرية باهضة الثمن بين ماء وكهرباء، وسكن، وكثيرا ما تتجاوز هذه الفواتير 2400 درهما، ناهيك عما ينتظره من مصاريف أخرى، وأشد ما يحز في نفسه هو عدم إنصاف المسؤولين عن هذا الميدان له، إذ رغم 54 عاما من العمل، لم يتمكن با الزعري من الحصول على لا كريمة تساعده على مواجهة خطر الفقر الذي يهدده، وجميع سائقي سيارات الأجرة بدون استثناء، خاصة في غياب أي تغطية صحية لأصحاب هذا القطاع، أو حتى الحق في الحصول على محطة قارة، مما يشكل بؤرة دائمة للصراع بين أصحاب سيارات الأجرة، وفي أحيان كثيرة تقوم قطيعة بين أصحاب سيارات كل منطقة على حدة، فيمنع على كل سائق أن يقل زبائن المنطقة الأخرى، مما يكون سببا مباشرا في تضرر الطرفين من هذا النزاع، وزيادة هموم السائق. خوف من الغد إدريس عمل في الميدان منذ أزيد من 19 سنة، أحد السائقين الذين لم يستفيدوا إلا من الضرائب المتزايدة على كواهلهم، ورغم أنه وزملاء له كثر في المهنة تقدموا بطلبات للحصول على لا كريما إلا أن طلباتهم وضعت في رفوف النسيان، وبقي يتمتع بها من هم في غنى تام عنها، وحياة الترف والبذخ التي يعيشونها تغنيهم عن بضع من الآلاف التي يتقاضونها من سائقي أجرة النقل الحضري، وقد شكلت صدمة بالنسبة لإدريس حين توجه بواجب الكراء لأحد مكتري لاكريمات ، حينما وجده ينعم بالعيش وسط منزل تتعدى مساحته 800 متر مربع، مما طرح في ذهنه العديد من الأسئلة حول أحقية امتلاك مثل تلك الرخص ومن الأولى بها، في حين يتعاطف جميع السائقين مع الزعري ويعتبرونه الأولى بامتلاك رخصة، خاصة أن ظروفه المادية لم تسعفه في امتلاك سيارة أجرة لحسابه الخاص بل أمضى عمره في المهنة مستخدما، ويتقاضى أجرة يومية من مشغله. هؤلاء السائقون يمضون اليوم بأكمله في انتظار أدوارهم لمزاولة عملهم، وبعد ساعات من الانتظار القاتل، يحرك السائق مقود سيارته، ليبدأ حكاية أخرى مع الزبائن، وهنا تلعب شخصية السائق دورا فعالا في تجنب الصراع أو خوضه، إذ أن مزاج السائق لا يستحمل أحيانا أي كلمة مهما كانت بسيطة، وأحيانا أخرى قد يتحمل كل شي و يدير عين شافت، عين ما شافت . وبين الهموم التي لا تنتهي يتساءل أصحاب سيارات الأجرة عن المغزى من عدم تمكينهم من موقف خاص لسياراتهم مع العلم أنهم يدفعون أجرة الموقف بانتظام كل ستة أشهر؟ وبين طروحات السائقين المختلفة، يظهر جليا خوفهم الكبير من المستقبل المرتقب، خاصة في غياب تمتعهم بأي تغطية صحية، وأمام تهديد السلطات لهم حسب أحد السائقين بتغيير نوع السيارة المستعملة، بسيارات أخرى جديدة، مباشرة بعد انتهاء مشروع أبي رقراق، وبداية استعمال الطرامواي . ويتساءلون أي تهميش، وأي هضم للحقوق ينتظر سائق سيارة الأجرة أكثر مما يعايشونه يوميا؟