يتسلل الحديث عن الديمقراطية في العالم العربي إلى كل القضايا المأزومة، وتعرض الديمقراطية كحل سحري لكل المشاكل تماماً كما لو أن طبيباً يعرض علاجاً واحداً لكل الأمراض. لقد صار تعاطي العرب مع الديمقراطية أشبه بتعاطي اللبنانيين مستحضر “أبو فاس”. وللذين لم يسمعوا بهذا الاسم من قبل نقول إن المرضى من كبار السن في لبنان كانوا يلجأون لهذا الدواء الصيني المنشأ على الأرجح لمعالجة أوجاع الرأس والمعدة والكلى والحنجرة والأذن وسائر الأمراض المعروفة بغض النظر عن درجة خطورتها. ولعل الأحفاد اللبنانيين أقلعوا عن “أبي فاس” بعد أن اكتشفوا بالتجربة أنه مهدئ وليس علاجاً لأي مرض وبالتالي لا غنى عن التوجه إلى الطبيب لتشخيص المرض بطريقة علمية وتناول الدواء الملائم. ومن غير المعروف متى ينظر العرب إلى الديمقراطية بوصفها نظاماً سياسياً مشروطا كسائر الأنظمة، وبالتالي لا تقدم حلولاً لكل المشاكل ولا تصح لعلاج كل القضايا. ولعل الاقتراب أكثر من المثال اللبناني يكشف بوضوح كيف يمكن للديمقراطية أن تستخدم كذريعة لارتكاب الكبائر بدلاً من حصر المشاكل السياسية وحلها بالطرق السلمية. بداية لا بد من حصر المعنى الديمقراطي في تعريف يوناني يحظى بإجماع الديمقراطيين الحقيقيين والمزيفين في الآن معاً “إنها حكم الشعب لنفسه بنفسه من أجل نفسه” واستناداً إلى هذا التعريف من الصعب على أي لبناني القول إن ممارسة السلطة في بيروت هي اختصار ل “حكم الشعب لنفسه بنفسه” ذلك أن نصف الشعب اللبناني (تقديراً) يعتقد أن الحكم يجسد هذا المعنى فيما النصف الآخر يرى أنه لا يجسده، وعندما ينقسم الشعب حول طريقة الحكم إلى نصفين لابد من البحث عن “المساومة” أو اعتماد “التوافق” على خطوط سياسية تحفظ مصالح الجميع أو اعتماد “التحكيم الشعبي” وبالتالي العودة إلى صناديق الاقتراع للفصل بين المنقسمين.. إلخ. ثمة من يقول إن الانقسام اللبناني مفتعل وإن المعارضة لا تحترم قواعد اللعبة الديمقراطية التي تنص على أمد للحكم محدد في الدستور بأربع سنوات هي عمر المجلس النيابي. وإنه خلال هذه الفترة يحق للتيار الحكومي الذي حظي بثقة الناخبين على أساس برنامج معروف أن يمارس السلطة وفق برنامجه فإذا ما كانت هذه الممارسة مقنعة للناخبين يجددون الثقة به وإلا فإنهم ينتزعونها لمصلحة المعارضة في الاستحقاق الانتخابي المقبل. يظهر للوهلة الأولى أن من الصعب التشكيك في هذه القاعدة فهي معتمدة ومعروفة في كل الديمقراطيات الغربية، بيد أن النظر إلى تفاصيل الانقسام بين المعارضة والموالاة في لبنان يعكس صورة مختلفة سنختصرها في الخطوط التالية: أولاً: لقد تنكرالفريق الحاكم للبرنامج السياسي الذي نال على أساسه ثقة الناخبين. فقد جاء بأكثرية مركبة من 14 آذار و8 آذار وتشكلت حكومة فؤاد السنيورة وفق هذا البرنامج الذي حظي بتأييد واسع في مجلس النواب. ثانيا: إن مخالفة القاعدة التي تسببت في تكوين الأكثرية الراهنة يضعف شرعية الفريق الحاكم ويشكل انحرافاً واضحاً عن السياق الديمقراطي. لنتذكر التجربة الألمانية عشية الحرب العالمية الثانية حين انتخب التيار النازي بزعامة أدولف هتلر وفق قاعدة تعددية، ومن ثم غير القاعدة التي انتخب على أساسها وأقام نظاماً ديكتاتورياً كاد يتسبب بدمار العالم بأسره خلال الحرب العالمية الثانية. ولنتذكر أيضاً السجال الجزائري الانتخابي عام ،1992 لقد تذرعت السلطة الجزائرية بهذه الحجة في إلغاء الانتخابات التشريعية حينذاك، فقالت إن الفائزين فيها يريدون تغيير القاعدة التي انتخبوا على أساسها، وبالتالي صار فوزهم غير شرعي ولا يعول عليه. لقد تسبب هذا الخلل بحرب اهلية دامت عشر سنوات وأدت إلى سقوط أكثر من 200 ألف ضحية. ولعل ما يحصل في كينيا اليوم يذهب في الاتجاه نفسه ما يعني أن احترام قواعد الاقتراع من الجميع قبل الاقتراع وبعده شرط معياري في اللعبة الديمقراطية. ثالثاً: لنفترض أن الفريق الحاكم في لبنان لم يخالف أياً من القواعد التي انتخب على أساسها لكن ممارسته للحكم أثارت غضب اكثر من نصف الشعب فهل يحق لهذا الفريق القول لنصف اللبنانيين اشربوا مياه البحر إن شئتم فلن نغير في طريقة الحكم بوصة واحدة؟ يمكن أن نطلق على هذا الموقف كل الأوصاف إلا الوصف الديمقراطي ذلك أن الديمقراطية تقتضي ممارسة السلطة مع الشعب وليس ضد نصف الشعب بحجة الاستجابة للنصف الآخر. في هذه الحالة لا تكون اللعبة الديمقراطية وسيلة ليس للحكم الاستحقاقي المشروط بفترة زمنية وإنما سبب في تعبئة نصف الشعب ضد نصفه الآخر. ولأنها كذلك فإن تظاهرة واحدة في فرنسا ضمت مليون شخص من أصل 70 مليوناً أدت الى أن تتخلى حكومة اشتراكية في مطالع الثمانينات عن مشروع اصلاح تربوي يضر بمصالح المدارس الكاثوليكية الخاصة، وأدت في أواخر الثمانينات إلى أن تتخلى حكومة يمينية عن مشروع إصلاح تربوي آخر يضر بالمستفيدين من التعليم الرسمي، ناهيك عن تخلي الجنرال ديغول عن الحكم عندما اكتشف عبر استفتاء عام أن نصف الفرنسيين يريدون رحيله. رابعاً: لقد شهد لبنان في العام 2006 حربا “إسرائيلية” كادت تهز أركانه وخرج منها منتصراً. إن أية أكثرية حاكمة في أي نظام ديمقراطي لا يمكن أن تمر على حدث من هذا النوع مرور الكرام. لقد كان حرياً بالحكومة اللبنانية أن تجري انتخابات مبكرة لاختبار ثقة اللبنانيين في سياستها خلال الحرب بدلاً من البقاء في السلطة استناداً إلى فتاوى جورج بوش البلهاء. صحيح أن الديمقراطية اللبنانية ليست كغيرها من الديمقراطيات وبالتالي لا تقاس قواعدها على قواعد غيرها، وهي غالباً ما توصف بالتوافقية. لا تثريب على هذا الكلام سوى أن الموالاة اللبنانية التي لا تريد التحكيم ترفض التوافق أيضاً، فكأنها انتخبت لتحكم بالإكراه وفق شرعية ديمقراطية على مقياس “أبو فاس”.