على قارعة أزقة حي يعقوب المنصور بالرباط، ما تزال ظاهرة أطفال ونساء ورجال الشوارع تنتصب أمام العيان رغم الحديث عن حملات تنقية الشوارع من المتشردين والمتسولين، لم نعد نقول أطفالا فقط بل هم مواطنون من أعمار مختلفة من كلا الجنسين، فتيات أمضين سنوات في الشارع ، وسيدات لم يجدن من يؤيهن غير طرقات يعقوب المنصور بالرباط رغم وجود أبنائهم وأحفادهم. طيش المراهقة فوزية من مواليد ,1981 من مدينة تمارة، غادرت منزل والديها في سن الخامسة عشر، لم تكن تعلم أن طيش المراهقة قد تدفع ثمنه غاليا، سنوات من التشرد في الشارع قضتها وما تزال تقضيها. في مقابلة لـ التجديد حكت فوزية بكل عفوية بعض التفاصيل المؤلمة من حياتها، ورغم أن تلك العبرات من الدموع كانت تغالبها إلا أنها حصرتها ومنعتها من الخروج، لأن البكاء لم يعد يغير فيها شيئا، وقد أمضت سنوات من البكاء دون أن تبشر بحال أفضل بل إن حالتها في التدهور الحاد تزيد يوما عن يوم. إن رأيتها تظن أن الواقفة أمامك قاربت الخمسين سنة من العمر، في حين أنها لم تكمل السابع والعشرين ربيعا بعد، وجهها تظهر عليه علامات الشارع يصعب أن تجملها بأي من أدوات التجميل. قصة فوزية بدأت عندما كانت تدرس في السنة الخامسة من التعليم الابتدائي، فتحت عينها على حب ابن الجيران كما يقع لأغلب المراهقات، غير أن قلة التجربة وتعاملها بكل سذاجة وعفوية أوقع بها في ما لم تكن تتوقع. قالت فوزية إن نظرة الحب تلك جعلتها تثق بالشاب غير أنه كان من مجرمي المنطقة بامتياز وهو ما لم تكن تعلمه، وضع لها مخدرا في كوب عصير، شربته ولم تشعر بحالها إلى أن اكتشفت في الصباح أنها تعرضت لجريمة اغتصاب نكراء. لممت جراحها وتوجهت صوب منزل العائلة التي باتت تبحث عنها الليل بأكمله، وما إن صادفوها في الطريق، حتى بدأت أيديهم تنهال ضربا عليها دون أن يسأل أحدهم عن جراحها. ربطها إخوتها وقامت أختها الكبرى بحرق باطن قدمها لم تستطع تلك السنوات الطوال أن تمحو آثار ذلك الحريق، ثم استطردت بمرارة عمري مانسمح ليها لا في الدنيا لا في الآخرة، وكأنها لعبة يتلذذ الكل في فن تعذيبها، هربت على إثر ذلك التعنيف الذي تعرضت له تجر جراحها في سن يصعب أن تستوعب فيه حجم المأساة التي تتخبط فيها. التقتها سيدة في الطريق ورأت في أعينها ذلك الضياع الذي تشعر به، فأخذتها إلى منزلها وشغلتها كخادمة، أمضت فوزية السنتين تعمل لحساب تلك السيدة دون أن تأخذ أتعاب عملها، وانتهى الأمر بالشجار بينهما فغادرت فوزية البيت لتبدأ أولى خطوات حياتها في المبيت في الشارع. مرت عليها قصص وأحداث غريبة على جنبات يعقوب المنصور، كانت إحداها شجارها مع أحد بائعي المخدرات، ترك لها جرحا غائرا على وجهها، ولما أوصلت تظلمها للشرطة زج بها في السجن لمدة ثمانية أشهر نافدة بتهمة الفساد، وتجارة الممنوعات. خرجت من السجن ولم يعد يساوم على جمالها أحد، فقد أصبح وجهها يخيف العابرين، ويوحي لهم بشراسة قد تنقض على أحدهم في أي وقت. فوزية اليوم تائهة بين توفير احتياجاتها من السجائر، والمخدرات التي تعتبرها رفيق دربها منذ أن جربتها في سن لم تتجاوز الثانية عشر على يد مغتصبها، وبين إشباع معدتها من الأكل، إذ تمضي اليوم كاملا في التسكع بالشارع ومد اليد بالتسول عل أحدا يمن عليها بشيء، وإن لم تجد فقد تضطر إلى البحث وسط القمامة عما تسد به جوعها. كل ما تملكه فوزية اليوم في رصيدها هو، وجه يخيف العابرين، ونظرات حقد دفين على من أوصلوها إلى هذا الحال، وخاصة على أفراد عائلتها الذين قالت إنهم عوض أن يوفروا لها الوقاية من الوقوع في أيدي الذئاب البشرية، وذلك عن طريق التنشئة السليمة، وعوض أن يداووا جروحها ويمنحوها الثقة في الحياة، رموها إلى براثن الشارع دون أن يمنحوها أمل العودة لتشعر بدفء والدتها الفاقدة للبصر، إذ رغم قرب المسافة التي تفصلها عنهم، إلا أنه لا أحد يسأل عنها وإن زارتهم فيكون مصيرها الطرد بكل قسوة. جدات يتوسدن الأرض خالتي رقية هكذا يسميها بعض سكان الشارع الذي تنام به في يعقوب المنصور بالرباط، وفدت إلى المدينة منذ أزيد من إثنين وعشرين سنة، ألفت المبيت في الشارع، وانقطع رجاؤها من أبنائها الذين قال عنهم بعض من يسكنون المنطقة بأنهم يعيشون في ترف كبير، وأن ابنها الأكبر يزورها أحيانا بسيارته الميرسديس، لكنه يطمئن عليها ويكمل مسيره، وحين استوقفه صاحب أحد محلات الأكل بالمنطقة يسأله عن سبب ترك والدته في تلك الحال حسب ما حكى في لـ التجديد، برر الإبن ذلك بأن والدته هي من اختارت وأنها لا تحب الرجوع للمنزل، لكن حال خالتي رقية يبعث على الشفقة، لأنها لا تستطيع حتى أن تتواصل مع الآخرين فالمرأة لا تتكلم سوى تاشلحيت، ولا تفهم اللغة العربية، وحين سألتها التجديد عن حكايتها، لم تبح لسانها إلا بكلمات دافئة من الدعاء لأبنائها وأحفادها، لكنها لم تجب عن أي سؤال، فكل ما يخرج من لسانها هو: الحمد لله. أما ميلودة التي تبلغ من العمر 49 عاما، فقد غيرت وفاة شقيقها مسار حياتها، إذ انقلبت عليها زوجة الأخ وأبناؤه وطردوها من المنزل الذي كانت تحتمي معهم بداخله، مع العلم أنها لا تملك مكانا آخر تلجأ إليه. وحكت ميلودة في تصريح لـ التجديد عن مرارة الليالي التي تقضيها بين جنبات الشارع والخوف الذي يدب في قلبها كلما توجه نحوها أحد وحوش الشارع الذين يسرقون منها بعض الأغطية التي يمدها بها المحسنون، ويتحرشون بها دون أن يراعوا حرمة السيدة، ولا كبر سنها الذي يبعث على الشفقة لحالها. ميلودة ترملت منذ سنوات، وربت ابنتها الوحيدة في كنف شقيقها الذي كان يرعاها ويقوم بكل متطلباتها، إلى أن تزوجت الإبنة واستقرت في منزلها، ومات الأخ المعيل، ولم يتبق لها من كل ذلك سوى ذكريات تمضيها وحيدة على جنبات شارع بحي يعقوب المنصور. قرب المحطة الطرقية للرباط يشاهد المار عالما آخر، يصعب فهمه أو حله، فهناك أطفال، وشباب وشيوخ، لكل منهم حكاية، ولكل منهم ذكريات يتمنى أن يمحوها لكنها تبقى راسخة معه إلى الأبد، لكن الشيء الأكيد أنه لا أحد منهم اختار وضعه الحالي، بل كلهم يمقتونه ويمقتون الظروف التي رمتهم إليه. إن كانت الأسرة ترمي أحد أفرادها إلى الشارع والحكومة ترمي كل تلك النكبات والمعاناة عرض الحائط وتنادي في نفس الوقت بشعارات حول حماية حقوق الإنسان، فأي إنسان تقصد بهذه الشعارات؟