أثار قرار تحويل المكتب الشريف للفوسفاط إلى شركة مساهمة الكثير من الجدل بين الفرقاء السياسيين في البرلمان والحكومة، حول نجاعة القرار وأبعاده، بعد أن تكشف للعموم أن المكتب يعاني اختلالات عميقة متعلقة بوضعية مالية وتدبيرية ناتجة عن سوء التدبير والتسيير من جهة، وتغاضي الحكومات المتوالية عن مرتكبي تلك الاختلالات من جهة ثانية، ومع تفاقم وضعية الأزمة كما خلصت إليها مكاتب الدراسات الدولية، التي لجأت تولت توصيف مكامن الخلل، وبدل أن يتم تحديد المسؤوليات، وإعمال القانون في حق المسؤولين عن هدر المال العمومي، عملت الحكومة في ظرف وجيز على تسريع وتيرة قرار التحويل، وفرض الأمر الواقع على المؤسسة التشريعية التي منحت تأشيرة التحويل لمؤسسة إستراتيجية كبرى في ظرف قياسي، دون افتحاص مالي ولا لجنة لتقصي الحقائق، مما يضرب بعمق في مبدأ الشفافية، ويشكك في تحقيق مطلب التنمية المنوط بمثل هذه المؤسسات.. OCP والدراسات الدولية خلصت الدراسات التي أنجزها عدد من مكاتب الدراسات والاستشارات الدولية، لفائدة المكتب الشريف للفوسفاط، من بينها مكتب الدراسات ماكينزي و كرول، بطلب منه، إلى تحديد مجموعة من الاختلالات الأساسية، أبرزها أن المكتب عانى من عدم القدرة على اتخاذ قرارات إستراتيجية خلال السنوات الأخيرة، مما أفقده جزءا من قدراته المالية والتنافسية، كما أكدت تلك الدراسات أن المكتب يفتقد إلى القدرة في التحكم في التوقيت الحقيقي للاختيار بين الفروع الثلاثة لمنتجاته المتمثلة في الأسمدة والحامض الفسفوري والمعدن. وكشفت أن المكتب عانى من عدم القدرة على التحول السريع في مكونات العرض، بما يسمح بمسايرة المتغيرات الجديدة للسوق العالمي للفوسفاط. كما سجلت الدراسات ذاتها القصور في التعامل مع المستثمرين الأجانب، الذي يتراوح بين السماح لهم بإنشاء معامل للحامض الفسفوري بالجرف الأصفر، وبين تصدير المنتجات لهم قصد تصنيعها، وتوقفت عند خيار المكتب المتعلق بتنويع الشراكات مع مؤسسات كبرى هندية وبرازيلية وإفريقية، مؤكدة أنها تمت في غياب برنامج استراتيجي واضح المعالم، وهو ما قد يؤدي إلى نتائج عكسية. على حافة الإفلاس هذه الاختلالات التي كشفت عنها الدراسات التي أنجزت، والتي تفاقمت مع ظهور منافسين جدد على خط إنتاج وتسويق الفوسفاط في السوق العالمي، مثل شركة جكاميد السعودية التي تتميز بقدرات مالية وتكنولوجية عالية، سيؤدي إلى تدهور توازنه المالي مع المؤسسات المنافسة، والتي ميّزت المكتب الشريف للفوسفاط لعقود طويلة. وبعد أزيد من 80 عاما من الاستغلال، كان من المفروض أن يكون المكتب منتجا للمواد الأولية كاللأمونياك والحامض الكبريتي التي يستخلص منها منتوجه النهائي الحامض الفسفوري، عوض أن يبقى مستجديا لهذه المواد من الخارج، فالإنتاج الأفقي الشامل والمتكامل والمندمج لم يتم، أضف إلى ذلك أن إنتاج الأورايتوم المستخرج من الفوسفاط لم يحرز فيه أي تقدم يذكر، وعليه فإن المكتب الشريف للفوسفاط لم يعمل على إعطاء القيمة الحقيقية للفوسفاط الخام. إن هذه الإشكالات امتدت إلى المستوى التجاري والتسويقي، فانعكست على المستوى المالي للمكتب، ففي سنة 2006 تحديدا، سجّل المكتب انخفاضا في القدرة على التمويل الذاتي بـ 75% ، كما أن منحى الموجودات والأصول الذاتية للمكتب عرفت منحا سلبيا اعتبارا للديون المتراكمة بـ400%- بينما المتوسط المقبول هو 70% . كما عرف الناتج الصافي انخفاضا خلال السنة ذاتها من 436 مليون درهم إلى 139 مليون درهم. ناهيك عن انخفاض نتيجة الاستغلال بـ3% ، وكذا انخفاض الأموال الذاتية بـ 25% من 4,3 مليون درهم إلى 2,9 مليون ردهم. هذه الوضعية العامة للمكتب هي التي وصفها تقرير حول قطاع المؤسسات العمومية والمنشآت العامة عند حديثه عن الموارد الآتية من المنشآت العامة في الصفحة 24 بقوله إن المكتب يواجه وضعية مالية غير متوازنة وإشكالية تمويل عملية تحويل صندوقه الداخلي للتقاعد، والذي يعاني من عجز يقدّر بـ 34 مليار درهم، ترجع وزير الطاقة والمعادن أمينة بنخضرا سببه إلى التفاوت الموجود بين المستخدمين البالغين نحو 18,500 مستخدم، والمتقاعدين الذين يفوق عددهم 29 ألف متقاعد. إلا أن السبب الحقيقي حسب المتتبعين يرجع إلى أن حسابات الصندوق لم تكن منفصلة عن الحسابات العامة للمكتب، بحيث لم تكن هناك هيئة تسيير مستقلة، وإنما كان يدار من خلال مديرية الموارد البشرية مما أدى إلى إخلال كبير لمآل الأموال المودعة في صناديق التقاعد. إن هذه الاختلالات الظاهرة والخفية هي التي تدفع الدولة إلى إمداد المكتب بحوالي 600 مليون درهم سنويا، هذا إضافة إلى امتناع المكتب عن أداء 500 مليون درهم سنويا كواجبات الاحتكار الواجب دفعها للميزانية العامة للدولة، وكذا تخفيض قيمة الضريبة على الدخل المسلمة للخزينة العامة بحوالي 13% سنة 2006, ثم إقدام الحكومة على إلغاء الإتاوة المفروضة على استغلال الفوسفاط المؤداة عند التصدير، من قانون المالية 2008, والتي بلغت 800 مليون درهم سنة 2007, مقدمة للجدل الذي دار بين المعارضة والحكومة الذي اشتد وقعه مع قانون رقم 07,46 الذي تم عرضه على مجلس النواب أولا ثم مجلس المستشارين بعد ذلك. مسار قانون استثنائي بعد مصادقة مجلس النواب على قانون المالية لسنة 2008, الذي ألغى الإتاوة المفروضة على استغلال الفوسفاط المؤداة عند التصدير، وكذا منح المكتب الشريف للفوسفاط 34 مليار درهم لدعم لنجاوز العجز الذي يعاني منه صندوقه الداخلي للتقاعد، طبقا للاتفاقية الثلاثية التي وقّعها المكتب الشريف للفوسفاط والدولة وصندوق الإيداع والتدبير في 19 يوليوز 2007, التي رهنت قانون المالية، وهو ما يعبر عن درجة تحكم المؤسسات الكبرى في الحكومة، والبرلمان بالتبع الذي أصبح مفروضا عليه منح طوق النجاة للمكتب وتقديمه لقمة سائغة إلى صندوق الإيداع والتدبير اليوم، وربما مؤسسة خاصة داخلية أو خارجية لاحقا. هذه الإجراءات التي تضمنها قانون المالية، فسّرتها المعارضة بكونها تخفي اختلالات وتجاوزات مالية، وتكرارا لتجربة المؤسسات العمومية التي أفلست، ومن تم الحاجة إلى افتحاص مالي قبل أي تحويل، غير أن الحكومة ألقت جانبا بمثل هذه المواقف، وعمدت إلى التسريع من عملية التحويل، بعرض مشروع قانون رقم 07,46 على مجلس النواب أولا، والذي يقضي بتحويل المكتب الشريف للفوسفاط إلى شركة مساهمة، واحتجت في ذلك بكون أن الدولة تخسر 600 مليون سنتيم يوميا في حالة تأخر مصادقة البرلمان على القانون. بعدها طالبت المعارضة ممثلة في فريق العدالة والتنمية بحضور مدير المكتب الشريف للفوسفاط مصطفى التراب إلى لجنة المالية والتنمية الاقتصادية، وموافاتهم في ذلك بتقرير عن الوضعية المالية والتسييرية للمكتب. أكد فيها أن المؤسسة تواجه تحديات في مجال الإنتاج والمنافسة الدولية، وتوقف في عن الإستراتيجية المستقبلية أكثر مما تحدث في الإشكالات البنيوية والاختلالات المسجلة. بينما تطرقت وزير الطاقة والمعادن أمينة بنخضرا إلى الدور التنموي للمكتب الشريف للفوسفاط، قدمت خلالها بعض الأرقام. على إثر ذلك أكدت المعارضة من جديد أن وضعية المؤسسة تحتاج إلى افتحاص مالي مؤكد. فضلا عن ذلك، هناك ملاحظة على القانون ذاته، يبدأ من الإسم المحدد للمؤسسة، حيث تنص المادة الأولى منه على أن يحول المكتب الشريف إلى الفوسفاط..إلى شركة مساهمة ذات مجلس إدارة، تحت اسم ذد س.ء، بحيث أن أكبر شركة للدولة ليس لها اسم بالعربية، وهذا يتناقض مع تصريحات الوزير الأول القاضية بالتمكين للغة العربية في الإدارات العمومية ومؤسسات الدولة، كما أنه لا يشير نهائيا إلى صندوق الإيداع والتدبير باسمه، في حين تعتبره الحكومة شريكا استراتيجيا في عملية التحويل بمقتضى الاتفاقية الثلاثية. وبالرغم من كل تلك الاعتراضات، سواء من المعارضة أو غيرها، انتهى النقاش حول القانون في مجلس النواب إلى مصادقة على القانون وإحالته على مجلس المستشارين الذي أوقف القانون أكثر من مرة، مطالبا بالوثائق الضرورية المتعلقة بالمكتب، خاصة الاتفاق الثلاثي، وتقارير حصيلة المجموعة، وتقرير تدقيق وضعية الصندوق الداخلي للتقاعد، وقد تسبب تلكؤ وزارة الطاقة في تمكينهم من تلك الوثائق إلى الاحتجاج أكثر من مرة، كما رفضوا مناقشة قانون التحويل إلا بعد الإطلاع على الوثائق خاصة الاتفاقية الثلاثية التي امتنعت الوزيرة عن تسليمهم إياها بحجة أنها وثيقة سرية، كما رفضوا الاستماع لعرض الوزيرة بنخضرا، وتقد عدد منهم، خصوصا من ممثلي المأجورين بنقط نظام تتعلق بـرفض أسلوب الضغط الذي تفرضه الحكومة على البرلمان لتسريع المصادقة على القوانين وفي آخر الدورات. هذا الإصرار من الجانبين كل على موقفه، اضطرت معه الوزيرة إلى الكشف عن نص الوثيقة التي كانت قد وصفتها بكونها سرية، اضطلعت عليها لجينة من أعضاء لجنة المالية والتنمية الجهوية بمجلس المستشارين، لتنطلق بعدها المناقشة العامة ودراسة مشروع القانون المذكور، الذي من المقرر أن تتم المصادقة عليه في آخر جلسة من الدورة التشريعية المنتهية، وبذلك يكون المكتب الشريف للفوسفاط قد طوى رحلة طويلة من عمره، وأغلق الستار عن كل الاختلالات التي برزت إلى السطح في فترة قصيرة جدا، ثم أريد لها أن يطويها النسيان، على غرار كل المؤسسات العمومية التي تعرضت أموال الشعب فيها للنهب والتلاعب.