مناطق متوارية بأزيلال تعيش تحت عتبة الزمن رحلات أسبوعية من أجل لقمة العيش قد تؤدي إلى الموت في عالم أصبح قرية صغيرة، تعيش أسر بكاملها في قرى متوارية وراء الجبال في إقليم أزيلال، تحت عتبة الزمن، لا يطالب فيها المواطن العادي لا بالحق في الماء ولا بالكهرباء ولا بتغطية صحية ولا بمحو أمية ولا بباقي الخدمات الاجتماعية، فذلك أمر يعرف أن أهل السهول والهضاب لم يقدروا عليه، كل ما يهمه أن يرفع الحصار عنه بإصلاح الطريق المؤدية إلى بيته، عسى أن تكون في حركة السير بركة، وأن تكون زيارته الأسبوعية للسوق بدون مخاطر، وأن يتم عبور أهله وأحبابه خلال العطلة الصيفية المقبلة في أمن وأمان. تحت عتبة العصر حالة سكان جماعة أيت إمليل بأزيلال واحدة من الحالات التي تعيش تحت عتبة القرن الواحد والعشرين، اخترنا الكتابة عنها، كنموذج لقرى عديدة تعيش الوضع نفسه، اخترنا أن نخرج من مشاكل المدينة إلى عالم لا يعرف عنه الكثيرون منا، غير ما علق في الذهن من روايات شفوية، نوضح الصورة عسى أن يتحرك المسؤولون من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه... جماعة أيت إمليل هذه تقع بجبال إقليم أزيلال، حوالي 04 كلم عن مدينة دمنات عبر طريق غير معبدة، وتمر إلى هذه الجماعة عبر منطقة تزكي، التي يقطعها طولا الواد الأخضر، وعدد سكانها يتجاوز 00051 فرد، وتفصلها عن إقليمورزازات جبال شاهقة أبرزها جبل رات وجبل مكون، ويعيش معظم السكان على رعي الماشية من غنم وبقر ومعز، وزراعة معاشية لا تكفي لسد الرمق وتوفير العلف. ويسلك السكان طريقة مميزة في الهجرة القروية للتغلب على هذه الظروف القاسية، حيث يهاجر بعض أفراد العائلة لمدة نصف عام، يشتغلون بالمهن الحرة في مدينة أكادير أو مراكش، تاركين أسرهم في عهدة النصف الباقي من اليد العاملة، التي تهاجر بدورها في النصف الثاني من العام، ظاهرة جديدة ظهرت في الآونة الأخيرة، خاصة في صفوف شباب القرية، حيث أصبح البعض يذهب إلى مدينة الدارالبيضاء للاشتغال كحارس ليلي للأزقة والعمارات، تاركين هم القرية لأصحابها. رحلة العذاب.. حين تفكر انطلاقا من مدينة دمنات أن تزور هذه الجماعة، التي تعيش فيها ثلاث قبائل أيت أمديوال وأيت اموكت وأيت امديس، حيث تنتظرك مناظر جميلة، لكن لن يكون باستطاعتك الذهاب إليها دون امتطاء شاحنة محملة بجميع أنواع السلع: ماشية ودقيق وسكر وفاكهة مكدسة إلى جانب البشر، لن تمر رحلتك قبل أن تتلقى بعضا من بول البهائم التي تزاحمك في المكان غير المريح في الشاحنة، وقد تغرز بقرة حذافيرها في قدمك دون أن تقدر على الصياح أو العويل، عليك أن تقرأ اللطيف مائة مرة كي لا تحدث حادثة في طريق الموت هذه، كما يسميها البعض هنا، وستكون محظوظا إذا ركبت شاحنة لا بأس بها، أما أغلب الشاحنات فهي مهترئة. ومن الملاحظات التي يقول بها السكان هنا أن ماركة واحدة من الشاحنات هي التي تقدر على الصمود بعض الوقت والسير في هذه الممرات الخطيرة، حتى يخيل لك أن بعض الشاحنات تسائل نفسها كيف تركت بلدها الأصلي وجاءت إلى هذه القفار تعدو في طريق صعبة للغاية. أما في العقبات والمنعرجات الصعبة، فما عليك إلا أن تساند الركاب في صياحهم باللغة المحلية راتغلي راتغلي أو ما معناه ستصعد ستصعد... لكن هيهات، فبعد قليل من الصياح يأمرك مساعد السائق بالنزول من أجل دفع الشاحنة... ينصح السكان ألا تسمع لحديث الناس، لأن ذلك سيزيد من مخاوفك، فالكل يتحدث عن الحوادث الكثيرة التي وقعت هنا، وذهب ضحيتها الكثير من الناس، وكم من امرأة لم تجد من ينقلها إلى المستشفى من أجل ولادة عسيرة، وكم من رجل دفع دم جوفه من أجل إنقاذ حياته من لسعة عقرب مميتة. وأصبحت هذه الأحاديث اليومية التي لا ترهب الناس، وكأنهم تعودوا عليها مثل ما يقع حين تشتعل نار حرب. حديثهم لا شك تقطعه مناداة السائق بالنزول إلى حين ترك فرصة للسائق من أجل تعمير الموتور، أما إذا كان حظك سيئا وصادفت شاحنة أخرى في منتصف الطريق، فما على الشاحنة الأولى إلا أن ترجع بضع كيلومترات إلى الوراء، لكي تبحث عن متنفس تستطيع فيه الشاحنة الثانية المرور دون مشاكل. أما إذا صادفت نزول أمطار الخير وجرفت المياه الطريق، فما عليك إلا أن تصبح أحد عمال البلدية ترفع الشجر والحجر من أجل تمهيد الطريق، وقد يحدث أن تحصل الشاحنة في الوادي، وما عليك إلا أن تظهر قوتك في الجر والدفع. يوم أغبر في السوق باع سي الحسين معزة من أجل شراء حاجيات منزلية وحاجيات مدرسية، وقال لنا إنه في صباح كل سوق أسبوعي، وقبل رحلة الذهاب، أول ما يفعله الحسين هو النظر إلى السماء، وتشمم الريح، ثم إشعال المذياع من أجل سماع حالة الطقس، أما سماع أخبار العالم فيأتي في المرتبة الثانية، حيث تكفيه بعض التحاليل في إذاعة لندن من أجل اكتساب خبرة اجتماعية وسياسية، ولا يمل ضيفنا هذا (أو نحن ضيوفه على الأصح) من الكلام في حضور أي غريب، لأن السكوت في العرف يعني البخل وانعدام الكرم، ليس له ما يقدمه لضيوفه حقيقة غير الكلام وبعض الفواكه الجافة التي يستخدمها في مثل هذه المناسبات.. يتذكر الحسين ذلك اليوم الأغبر، التي كادت حياته أن تذهب سدى، ففي رحلة العودة، وما أن وصلت الشاحنة إلى إحدى النقاط السوداء، حيث يتعين عليها قطع الوادي، حتى هاجم الماء الجميع بسرعة فائقة، ولم يعلم أحد من أين أتت سرعة التيار، ولولا لطف الله لكانت الشاحنة يضرب بها عرض ضفاف النهر، ولكان الحسين يرقد الآن تحت الثري في مقبرة الجماعة، يتساءل سي الحسين: >متى تصلح هذه الطريق الملعونة، التي نطالب بها منذ أزيد من ثلاثين سنة، هل لا يوجد في المغرب ميزانية تفك عنا هذه المحنة، ألا يوجد مهندسون أكفاء قادرون على التغلب على الجبال والوادي، وبناء قناطر صلبة تتحمل مجاري المياه<، أما صديقه محمد، فيقول: >ماذا فعل كل من صوتنا عليهم في الانتخابات من أجل فك هذه العزلة عنا، وماذا فعلت السلطة الوصية، لا شيء غير ذر الرماد في العيون طوال هذه السنين. مسيرة أميال على الأقدام يحكي سي الحسين عن مسيرة أميال على الأقدام، فلم يجد سكان القرية بعد إلحاح العديد منهم على إنشاء هذه الطريق، سوى تجميع أكثر من خمسمائة شخص، وذهبوا في رحلة إلى الرباط على الأقدام، رافعين شعار إصلاح الطريق ولا شيء آخر غير إصلاح الطريق، وعلى طول المسيرة رفعت الشعارات، ولم تستطع السلطات المحلية إقناعهم بالعدول عن الفكرة والرجوع من حيث أتوا إلا بعد قطع مسافة 051 كلمترا، حين اقتربوا من الدخول إلى مدينة قلعة السراغنة، فتم إقناعهم بالعودة، لكنهم ندموا على ذلك، لأن جميع الوعود أخلفت وجميع التطمينات ذهبت أدراج الرياح، صعب أن يتجمع الآن السكان في مسيرة كهذه، فلا يجرؤ أحد على اتخاذ مثل هذه المبادرات، وأصبح الكل مقتنعا أن أياد خفية تلعب من أجل أن يبقى هذا المكان بدون طريق وبدون تجارة وبدون تنمية. يقول السيد عمر، أحد الشباب الذي تبدو عليه ملامح ساكنة المدينة والذي صادفناه بالمنطقة، إن أمل سكان المنطقة أن يسمح لهم بلقاء أمير المؤمنين، ليشكو له ما يعانونه من قسوة الطبيعة ومن شح العيش وقهر السلطات المحلية الإدارية والمنتخبة، مضيفا: >إنني من مواليد هذه المنطقة المعطاء، فأبناؤها صبورون ومجدون ومكافحون، ومخلصون للوطن، ودافعوا عنه ضد الاستعمار وأذنابه، وأصبحوا يشكلون أطرا مهمة، تتفانى في خدمة الوطن، منهم القاضي والمهندس والمحامي والربان والشرطي والدركي والموظف والعامل المجد، لكنهم لا يفكرون في زيارة المنطقة بسبب طريق المحنة، التي يمر منها الجميع، كما يمر الإنسان من عنق الزجاجة، فالمار إليها مفقود إلى أن يعود، وظروف التنقل غير ملائمة، وأما استعمال السيارة الخاصة، فذلك أمر مستعبد، ولا يبقى أمام الجميع إلا الشاحنات، التي تضطر إلى الانقطاع عن رحلة الغدو والرواح، كلما غمت سماء ذلك الجبل أو هطلت قطرة ماء، فمن لم يحاصره الوادي حاصره الصخر والحجر.. التفكير بطريقة أخرى حاولنا الاتصال بأحد المسؤولين عن الجماعة، لكننا لم نفلح، خاصة وأن المنطقة شاسعة، ووسائل النقل منعدمة في أي اتجاه، لكن صادفنا أحد المهتمين بالتنمية السياحية القروية، فضل عدم الكشف عن اسمه، فقال إن هذه المنطقة جميلة جدا بمناظرها الخلابة، ويمكن أن تستغل سياحيا من أجل الرفع من مستوى عيش سكانها، فالسياح يحبذون تشجيع السير إلى أماكن غير معروفة، لكن هذه الطريق تبقى حجر عثرة في سبيل أي تنمية سياحية بل واقتصادية، لذا يجب علينا أن نفكر، كما يقول الأوروبيون بطريقة أخرى، فعدد من القرى أصبح لها صيت عالمي بفضل تجهيزها بالمنشآت السياحية دون أن ننسى المحافظة على الطابع القروي لهذه المناطق واحترام خصوصيتها الثقافية، لأن ذلك هو الذي يجلب السياح الذين ملوا من حياة المدن الكئيبة. زيارتنا لجماعة أيت إمليل، رسخت في النفس أن انعدام البنية التحتية لأي منطقة تعد من كابحات التنمية في هذا البلد، حيث لا يستقر فيها إنس ولا حيوان، ولعل شعار فك العزلة عن البوادي خير دليل على ذلك، رغم أن هذا الشعار استهلك بما فيه الكفاية ولم يعد لطنينه أي صدى في مسامع كثير من أهل البادية، فحين تنعدم هذه البنية لا تزدهر تجارة ولا صناعة ولا فلاحة ولا سياحة، وتضرب الأمية أطنابها، ويأخذ المرض حظه من عافية الساكنة، والطرق لها أهمية كبرى، حيث بدونها لن يقدر آلاف من السكان على التواصل مع العالم، ورغم ذلك لا يقدر أحد أن يعيش معزولا عن العالم، فلا يجد غير المغامرة بحياته راكبا، بدل أن يغامر بها جالسا في منزله. عبد الغني بلوط