الانهيار الذي شهده حزب الوفد في مصر يسدل الستار على التجربة الحزبية في عصر الجمهورية المصرية، وهي التجربة التي بدأت مع نشأة المنابر المصرية (اليمين والوسط واليسار) في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، ثم تطورت خلال أكثر من ربع قرن حتى وصلت إلى حالة الموات التي نرقبها الآن. وما تشهده التجربة الحزبية اليوم، هو النتيجة الطبيعية لبدايات النشأة التي لم تكن أبداً طبيعية وإنما كانت مفتعلة أو مصطنعة... لحاجة في نفس النظام يومها، أراد من خلالها توجيه رسائل للعالم، خاصة الغرب، بأن تغييراً ما بدأ في مصر وأن عصر الديمقراطية قد بدأ. ففي تلك الفترة كان نظام الرئيس أنور السادات يولي ظهره للصديق السوفييتي صاحب الحزب الواحد داخل النظام الشيوعي المغلق، متجهاً صوب الغرب وخاصة الولاياتالمتحدة، فكان لابد للنظام من تأهيل نفسه وتلميع واجهته بكل ما يستطيع من الأدوات. ومنذ ولادة التجربة ولادة غير طبيعية، نمت وتدحرجت عبر أكثر من ربع القرن نمواً غير طبيعي، فتأثرت بأبسط عوامل التأثير الاجتماعي والسياسي تأثراً سلبياً.. وتساقطت واحدة تلو الأخرى مع كل أزمة تتعرض لها. تشكيل الأحزاب من البداية كان عملية انتقائية من قبل مؤسسة الحكم، فقد تم الحظر «من المنبع» على القوى الحية التي كان يمكن أن تسهم في تطوير الحياة السياسية وتعطي لها الزخم والحيوية اللذين يليقان بالدولة المصرية، وتم الاكتفاء ببعض القوى متوسطة الشعبية أو التي لا شعبية لها، حتى بلغ عدد الأحزاب 22 حزباً لا يعلم معظم المصريين 90% من أسمائها.. وصرنا نشاهد على امتداد تلك الفترة أحزاباً.. قادتها أو كوادرها يعدون على الأصابع. ومن حاول من هذه الأحزاب الاستقواء أو التحالف مع قوى أخرى وبما لا تهوى السلطة دهمته طاحونة الانشقاقات ثم التجميد إلى غير رجعة. الخطأ فيما آلت إليه التجربة الحزبية المصرية لا يقع على السلطات وحدها. وإنما معظم الخطأ أو القصور يعود إلى الأحزاب نفسها.. فقد نالت الشرعية، ونالت حرية إصدار الصحف، ونالت حقوقاً لا بأس بها، في التحرك بين الجماهير ودعونا من «شماعة» التضييق لكنها لم تستثمر هذه الأجواء في بناء هياكلها بناءً صحيحاً وسليماً، ولم تبن تحركاتها بين الجماهير وفق برامج واضحة ومقنعة ولم تقدم قياداتها نماذج أو تجارب حتى في الحوار الداخلي يمكن أن يجذب إليها الجماهير. لقد ثبت أن عدداً من هذه الأحزاب فاقد من داخله لعناصر الحياة السياسية الطبيعية، وفاقد الشيء لا يعطيه.. فماتت واقعياً وإن بقت يافطاتها «تلعلع» في الشوارع، وإن ظلت وصحفها «تطنطن» بين الناس. أما البعض الآخر الذي حافظ على حيويته إلى حد ما مثل أحزاب: «الوفد» و«التجمع» اليساري و«الناصري» فقد ظلت على فكرها القديم أو بمعنى أصح على مجدها القديم دون تجديد في الفكر أو البرامج أو الآليات. والحقيقة أن الدنيا حولها تغيرت بطريقة أسرع من تفكيرها من جانب، أضف إلى ذلك أن قادة وكوادر تلك الأحزاب ظلوا قابعين في مكاتبهم مكتفين بالإطلال على الناس عبر الصحف في كل الأحيان، ويظهرون بين الناس في المناسبات.. والجانب الأهم أن عدداً من قيادات تلك الأحزاب فقدوا مصداقيتهم وخربوا على أحزابهم عندما جعلوا رسالتهم الأولى ضرب القوى الأخرى، مثلما فعل د. رفعت السعيد رئيس حزب التجمع مع الإخوان، كل ذلك أسهم في صناعة حالة من «الأنيميا» أصابت تلك الأحزاب في مقتل! والآن.. يبدو من الصعب على هذه الأحزاب أن تعيد ترميم نفسها لتعود إلى الحياة السياسية من جديد. الخطير أن تهاوي الأحزاب القائمة بهذا الشكل الذي بدا في حزب الوفد سيجمد الحياة السياسية، وسيكون على مؤسسة الحكم أن تختار بين إطلاق تجربة حزبية حقيقية تبعث الحيوية في الحياة السياسية.. أو تترك الأمور تسير إلى حالة من «الموات»!