محاولة في استئناف النقاش مع أن المغرب لم يكن في منأى عن تداعيات الحراك الذي عم أغلب أقطار الوطن العربي، إلا أنه بفضل حكمة ملكه ورزانة نخبه وواقعية انتظارات مجتمعه، استطاع أن يبلور تعاطيا سياسيا جعله يستفيد من عوائد الحراك دون التورط في مسار "ثوري"، كان يبدو، غير محسوب النتائج. لقد شكّلت سنة 2011 لحظة تحول سياسي دقيقة، مغربيا وعربيا. ذلك أن انطلاق شرارة "الربيع العربي و/أو الديمقراطي" كان بمثابة منحة ربانية، هيأت ظرفا مناسبا لإحداث تغيير في موازين الإصلاح لفائدة الشعوب المستضعفة. لدرجة يمكن معها أن نعتبر بأن هذا الحراك المجتمعي قد أشّر على زمن الشعوب التي استطاعت أن تستعيد مبادرتها في موازنة معادلة التدافع في وجه أنظمة استبدادية متحكمة ومنغلقة، لم يؤد تحكمها في السلطة واحتكارها للثروة إلا إلى تجذر الفساد والاستبداد في مختلف بنياتها السياسية والإدارية والاقتصادية إلخ. الامر الذي شكّل أرضية خصبة وفّرت شروط انتفاض عربي يسعى إلى تفكيك بنيات التسلط والهيمنة ويناضل من أجل تشييد دولة الحق والقانون؛ حيث ينعم المواطن بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. ومع تزامن أحداث الحراك العربي في أكثر من قطر، حيث انطلق هذا الانتفاض من تونس ليمتد إلى كل من مصر وليبيا وسوريا، وبالرغم من تقارب سياقاته وشعاراته، إلا أن مطالبه قد تمايزت بتمايز طبيعة الأنظمة السياسية ومواقف القوى الفاعلة في المشهد السياسي ومدى انخراط الفئات الشعبية في استعادة سيادتها على قرارها السياسي والاستفادة من مقدراتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ، والعمل على جعل التنمية مدخلا للديمقراطية وليس بديلا عنها. وفي ظل هذا النفس الانتفاضي العربي المفعم بقيم النضال من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، عاش المغرب ربيعه الديمقراطي بطريقته الخاصة، حيث انفرد بتحقيق إصلاحات مهمة استجابت من خلالها المؤسسة الملكية لمطالب الحراك الديمقراطي الذي صاغت مطالبه حركة "20 فبراير" من خلال شعاراتها التي رفعتها في المسيرات منادية بتحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية والحرية والمطالبة بفك الارتباط بين والثروة والسلطة. كما لعبت الهيئات الحزبية والنقابية دورا في تأطير هاته المطالب، ولعل من بين هذه الهيئات يمكن أن نذكر الأدوار الطلائعية التي لعبها حزب العدالة والتنمية والذي قدم أطروحة مستوعبة للمطالب الشعبية دون إضرار بالمصالح الوطنية، وذلك من خلال بلورة اختيار ثالث يتأسس على منهج الإصلاح في إطار الاستقرار حيث لم يتماه الحزب، كليةً، مع مطالب حركة 20 فبراير، وفي نفس الوقت لم ينفك مُطالبا بإسقاط الفساد والاستبداد وإنجاز انتقال ديمقراطي ثاني حقيقي يرقى الى رهانات اللحظة . وقد دشنت المؤسسة الملكية مسلسل من الإصلاحات بخطاب التاسع من مارس 2011 ، والذي ترتب عنه فتح ورش لتعديل الدستور تُوّج بدستور 2011 ، تلاه إجراء انتخابات سابقة لأوانها بوأت الحزب موقع الصدارة على رأس السلطة التنفيذية . وبعد مرور سنوات من الحراك الشبابي المغربي ، بشكل قد يحرر المتتبع من ضغط اللحظة السياسية، مما يتيح لنا فرصا أكبر لقراءة مسار تجربة العدالة والتنمية، بحكم الأدوار التي قام بها طيلة السنوات الست الأخيرة، وذلك بمساءلة مقدار وفائه للأطر المرجعية النظرية التي تؤطر منهجه في عملية الإصلاح السياسي عموما، واستشراف عوائدها على مستوى الكسب الذي تحققه في المساهمة في عملية الاقلاع التنموي . ليس خفيا على أن منهجية الإصلاح السياسي عند حزب العدالة والتنمية تنطلق من خمسة محاور أساسية: 1. اعتماد الثوابت الوطنية أرضية للانطلاق؛ 2. اعتبار العمل السياسي مسؤولية والتزام؛ 3. تقديم المصلحة الوطنية على المصالح الحزبية؛ 4. الاختيار الديمقراطي؛ 5. التدرج والإصلاح؛ لقد مكن هذا المنهج حزب العدالة والتنمية من الانخراط في العملية السياسية بطريقة انسيابية، مما جنّبه المراهنة على الحسم الانتخابي الحاد والمؤدي إلى تغييرات جذرية في الخريطة السياسية؛ مستثمرا في ذلك طبيعة النظام السياسي المغربي، والذي تميز بقدرته الإدماجية بهدف تنويع مصادر شرعيته سواء التقليدية أو الحديثة؛ وهو ما أسس لعلاقة قائمة على التعايش بينه وبين مختلف الفاعلين في النسق السياسي المغربي، بشكل ينبذ منطق الغلبة والشوكة المستنزفة لجهود الإصلاح. لقد استطاع حزب العدالة والتنمية من الظفر لولايتين تشريعيتين بالنتائج الأولى، وهو ما يعد انتصارا انتخابيا وسياسيا، يستوجب تقييما لفرضية مدى صوابية اختزال عملية الإصلاح في شقه السياسي والارتهان لمتغيرات يمكن أن تعصف بالمكتسبات التي حققت في أي لحظة من التاريخ السياسي المغربي . رجوعا الى الأطر النظرية الأصيلة المؤطرة لعملية الإصلاح انطلاقا من مرجعية اسلامية نجدها تستند في ذلك لمفهوم السياسة الشرعية والتي يعرفها ابن عقيل بالعملية التي تجعل الانسان يكون أقرب الى الصلاح وأبعد عن الفساد؛ لذلك عُرّف الإصلاح بأنه قيام الأمر بما يصلحه، وهو ما يجعل من السياسة الشرعية ترتبط بمنطق الاصلاح، وتؤسس لعلاقة تنزع بالدولة والامة نحو التعاون والتوازن، مما يحول دون تغول الدولة على الأمة، ويمكن من صيغة اشتغال ايجابية دولة قوية ومجتمع فاعل، بدل دولة متغولة ومجتمع ضعيف ومنهك. ما ينبغي الانتباه اليه من طرف حزب العدالة والتنمية وهو عدم الارتهان الى منطق سلطة النموذج الغربي الذي تقدمه الخبرة التاريخية الغربية لمفهوم علم السياسة والذي يعرفه "دافيد أستون" بأنه علم السلطة والقوة وعلم الدولة، منزع قاد "هوبس" إلى تعريف "الإنسان بأنه ذئب لأخيه الإنسان"، وهو ما يؤسس لعلاقة تنزع بين الدولة والمجتمع نحو الصراع وشرعنته عبر ما يصطلح عليه ب"العنف المشروع" أو "الفوضى الخلاقة"، مما يمكن من تغول الدولة على المجتمع، موقع أهلها لحيازة السلطة حيازة كاملة، ومصادرة حق المشاركة في تدبير الفضاء العام، مع فرض رقابة صارمة على الفضاء الخاص. وبناء عليه، فممارسة حزب العدالة والتنمية عليها ألا تتماهى مع الرؤية الغربية لعلم السياسة، التي تجعل من الدولة الساحة الوحيدة لعملية الاصلاح السياسي، وهو أمر مناقض لطبيعة الخبرة التاريخية العربية الاسلامية، الذي يجعل من الأمة هي الأصل، والدولة هي التجسيد الموضوعي لحاجة مجتمعية. وهو المنطق الذي يحرر الأطراف من الصراع نحو تملك السلطة والدولة بالقوة والعنف والصراع، ويفتح آفاقا عديدة تمكن من استيعاب وتعبئة قوى اجتماعية واسعة عبر مداخل متعددة من جملتها المجال الفكري والعلمي والفني والاقتصادي والاجتماعي والسياسي والعمل المدني، مما ينقل العملية الإصلاحية من عنصر الاختزال إلى الاشتغال بمنهجية مندمجة، تستحضر مركزية السياسي ولكن عوائده الايجابية لن تقدر إلا بتسكينه ضمن رؤية شاملة، تتوق لكسر طوق التخلف في مجالي الديمقراطية والسبق الحضاري الغربي. لقد شكل الحراك العربي الديمقراطي جواب سياسيا وفكريا لمنطق تدبير علاقة المجتمع بالسلطة، حيث ساد منطق الغلبة والشوكة ومصادرة حق المشاركة في تدبير الشأن العام، وهو ما جعل مجتمع الدولة يعيش تحت أنظمة سلطوية مستبدة، ولأن للظلم عمر افتراضي سينتهي إليه، جاء المد الاحتجاجي من أجل إعادة ترتيب علاقة السلطة بالمجتمع، في أفق بناء دولة المجتمع والانسان. وعملت دساتير الجيل الجديد على تجاوز هذا الاختلال البنيوي في تدبير علاقة الدولة بالمجتمع قصد تجاوز هذه الاختلالات البنيوية في علاقة الدولة بالمجتمع، مما جعلها تحتفي بالمجتمع المدني عبر تمكينه من وضعية اعتبارية مهمة عبر التنصيص على مجموعة من المقتضيات الدستورية التي تنقله من وضعية المفعول به إلى وضع الفاعل والمبادر والمشارك في صناعة القرار وترشيد السياسات العمومية؛ وهو ما جعل من أهم مخرجات دستور 2011 الديمقراطية التشاركية في تناغم مع الديمقراطية التمثيلية، وهو جهد يتوخى إعادة التوازن إلى الاختلال الذي تعرفه العلاقة بين الطرفين. إن سؤال تقييم تجربة حزب العدالة والتنمية من خلال كسبه السياسي، لابد أن ينضبط لرؤيته في الإصلاح السياسي، وألا ينفلت منهجه أمام ضغط الاستغراق في التدبير اليومي للشأن العام ، أمر يستدعي استحضار أفق التجربة السياسية التي تنهل من المرجعية الاسلامية قيما ومقاصدا، وأطر نظرية متحيزة لمشروع حضاري إنساني ، يعمق الاشتغال على المشترك بمنهجية تدافعية وبمنطق التعاون لا الصراع ، مما سيمكن من أنسنة الفعل السياسي ويجعل من العملية السياسية الاطار الذي يتحقق فيه أكبر قدر من التعاون وأقل قدر من الصراع .