فهذا كتاب الله فيه آيات لقوم يتفكرون، يأمر الناس بالاعتبار: (فاعتبروا يا أولي الابصار) (الحشر: من الآية2)، وإن كان القرآن لم يأمر بالتفقه كافة الناس كما في قوله تعالى:( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) (التوبة:321) فإنه لم يسقط الاجتهاد عن جميعهم. وفرض وجود مراجع في الأمة، يرجع إليهم عند الحاجة: (ولو ردوه إلى الرسول وإِلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) (النساء: من الآية83). وهذه السنة النبوية الشريفة تزف بشرى الأجر لمن بذل وسعه وطاقته في الاجتهاد سواء أصاب في ذلك أم أخطأ. فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله يقول: إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر.(1) اختلاف التفاعل قوة وضعفا ورغم هذه الخلفية العقدية للبيئة الإسلامية، فسيبقى الاختلاف بينها عبر الزمان والمكان، بحسب تفاعل الناس مع هذه المعاني فهما وتنفيذا. فالعقيدة هي العقيدة، والنصوص هي النصوص ولكن الناس ليسوا هم الناس .ولم يكن من العبث فضل من سلف من أهل القرون المشهود لها بالخيرية على من بعدهم من الخلف، حيث كانت فيهم ملكة الاجتهاد أقوى وأعمق .يقول ابن حجر الهيثمي وهو يميز بين مصطلح المتقدمين والمتأخرين، أن المتقدمين:( هم من قبل الأربع مائة، ومن عداهم يسمون بالمتأخرين ولا يسمون بالمتقدمين (...) ويوجه هذا الاصطلاح بأن بقية أهل القرن الثالث من جملتهم السلف المشهود لهم على لسانه صلى الله عليه وسلم بأنهم خير القرون. فلما عدوا من السلف وقربوا من عصر المجتهدين وكانت ملكة الاجتهاد فيهم أقوى من غيرهم خصوا تمييزا لهم على من بعدهم باسم المتقدمين)(2) فنجد (أكثر الصحابة الملازمين للنبي صلى الله عليه وسلم كانوا فقهاء مجتهدين، ولا يطمع في عد آحاد المجتهدين من الصحابة والتابعين لكثرتهم وعدم حصرهم)(3)، وكان المجتهدون في المائة الثانية أكثر وأوفر، وكانوا أجل وأعظم بالنسبة لمن بعدهم. كما كانت (المائة الثالثة مزدانة بالأئمة الكبار على قلتهم بالنسبة للمائة قبلها، بخلاف الرابعة التي فشا فيها التقليد، وصار العلماء للجدال في أي المذاهب أفضل وأيها يرجح كل ذلك، تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم: خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.(4)، فبعد عجزنا عن عد المجتهدين، صرنا إلى كثرة يمكن عدها، ثم إلى قلة، ثم بدأنا نبحث في كل قرن من الزمان عن الثلاثة والإثنين والواحد أو لانكاد، إلا أن ندخل المجتهدين المنتسبين وأصحاب الوجوه والترجيح والفتوى والتلفيق.. ثم صرنا لمناقشة خلو العصر من المجتهد.. وهكذا منذ أن تحول أمر الأمة من رابطة الشورى الحقيقية والخلافة الراشدة، إلى قاعدة العصبية والملك والاستبداد وهي في نقصان. لأن الكل يعلم (أن الاستبداد ماح للاجتهاد موجب للتقليد)(5) وعسى أن يكون في عودة الاعتبار إلى الشورى في الأمة شيئا فشيئا ، حتى تتوج بالخلافة على منهاج النبوة، عودة إلى أمر الاجتهاد كما بدأ . وتجدر الإشارة إلى أن الأمة الإسلامية رسخ فيها منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم، أخذ العلم عن أفواه الرجال، ولم تكن الكتابة إلا أمرا تابعا للاحتياط ضد عوامل النسيان، وزيادة في الضبط والتوثيق. فكانوا يجمعون إلى أخذ العلم أخذ العمل والسلوك، مما يكون له أبلغ الأثر في التربية والتكوين والفهم السليم. ولهذا (كان يقال لا تحملوا العلم عن صحفي ولا تأخذوا القرآن عن مصحفي )(6)، إنما هي الرحلة لملاقاة الشيوخ، ففي التلقي عنهم وقوف على أحوال من يؤخذ عنه الدين، وفيه تقوية للملكةكما سبق بيانه. 1 أورده الامام الشافعي في رسالته بسنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم :ص/.494 وقال عنه وهبة الزحيلي في هامش صفحة 1039من كتابه أصول الفقه الاسلامي ج2 حديث متواتر المعنى أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأصحاب السنن . 2 أحمد بن حجر الهيتمي (ت 974ه) الفتاوى الفقهية الكبرى ج 4 ص64 الناشر: المكتبة الإسلامية. 3 السيوطي الرد على من أخلد إلى الأرض.187186 4 الحجوي الفكر الاسلامي م2 ج3/.48 5 نفس المرجع السابق م,1 ج2/.271270 6 أبو أحمد الحسن بن عبد الله العسكري ( ت 382ه) أخبار المصحفين تحقيق صبحي البدري السامرائي - عالم الكتب- بيروت- 1406 الطبع