ومن طرائف ما حصل لي، يقول السحابي، أن أحد شباب رجال الأمن سألني: الفقيه السحابي، أنت تفتي للناس! فقلت: أفتي في ما علمت. وقال: وما هي شروط الفتوى؟ فقلت له: وهل تعرف عنها شيئا؟، وأضفت: أبهذا الأسلوب تتكلم مع الفقهاء وأهل القرآن، هل تمتحنني في شروط الفتوى، تأدب قليلا! وسكت على أي حال، ولم يرد بشيء، وعندما كنا داخل السيارة في الطريق إلى مقر الأمن قال لي: السي الفقيه، إننا لم نتفاهم في ما تحدثنا حوله، فأنا أريد أن أقول لك إن الفتوى من اختصاص جلالة الملك! وسكتُ ولم أُجبه، وأضاف: لما لم تُجب؟ فقلت له: جلالة الملك هو الذي يأمر العلماء والفقهاء ليفتوا للشعب المغربي، فهل جاءك أمر من جلالة الملك يمنع العلماء والفقهاء من تعليم الناس أمر دينهم! فقال: لا. وبعدها قلت له: إذن أنت تتكلم في أمر ليس من اختصاصك! ولزم الصمت مرة أخرى. وفي كتابة المحضر سألوني عن أحداث الدارالبيضاء، وقلت ما أراه صوابا، وسألوني عن بعض الإخوة، الموجودين الآن بالسجن، مثل محمد الفيزازي وأبو حفص وحسن الكتاني والشيخ عبد السلام ياسين، وقلت لهم: هؤلاء أعرفهم جيدا، وبرأتهم من هذه الأحداث، لأن أي إنسان له حظ من الدين والإيمان لا يقر بهذه الأعمال ولا يرضاها. واستمر مزاحي مع رجال الأمن في تلك الليلة والليلة الثانية، التي قضيتها بمقر الأمن، وسألوني عن أحكام الصلاة، ومما تجاذبناه في تلك الليلة، التي صادفت ليلة الاثنين، حيث سيكون رمضان بالمغرب، أن قالوا لي مزاحا: الفقيه السحابي، لقد أفطرت يوما من رمضان! وقلت لهم : كيف ذلك؟! قالوا: لقد صامت اليوم إحدى البلدان العربية، فقلت: لا علم لي بذلك ولست مسؤولا عن إفطاري، وإن أفطرت فقد أفطرتم أنتم أيضا! ولما ذكروا لي البلاد، التي صامت قبل الدول العربية(ليبيا)، قلت لهم: هذه البلاد ليس قدوة لنا، فضحكوا جميعا. ومن الطرائف أيضا، أن خاطبني أحدهم: هل ما زلت تذكر أحد الأشخاص الذي وقعت لك معه خصومة؟ وكنت قد نسيت موضوع شروط الفتوى، ولم أتذكره وقتها، فقالوا لي:هو وراءك؟ ولما التفتُ لم أتبين ملامحه لضعف بصري، فقلت: والله لا أعرف. وذكروني بواقعة سؤال الشاب من رجال الأمن عن شروط الفتوى، وطلب مني الاعتذار عما صدر منه، وعفوت عنه، لأن المسلم لا يحقد على أحد، خاصة أهل القرآن وأهل العلم فهم يريدون الخير لكل الناس. ولما أرادوا أن يسرحوني، طلبوا مني أن أصلي بهم صلاة التراويح، لكن أحدهم خاطبهم: اتركوا الشيخ السحابي يعود إلى أسرته. الدرس المستفاد ويروي الشيخ السحابي تداعيات هذا الحدث على نفسه وأسرته ويتابع قائلا: لقد خيم البكاء أرجاء بيتي، وعند عودتي امتلأ البيت بالزائرين وهنأوني بالسلامة، وهم يسألون: ما شأنك أنت والأحداث حتى يأخذوك؟ لأنهم يعتقدون أن مجيء رجال الأمن يعني أني سأودع في السجن، إذ كان الوضع غريبا عما تعارف عليه المجتمع المغربي. ومما أتذكره أن إحدى بناتي لزمت مقر الأمن طيلة اليوم الأول في انتظار أن يطلق رجال الأمن سراحي، لكن أحد الإخوة، جزاهم الله خيرا، أخذها بسيارته وأرجعها إلى المنزل. والشيء الذي استغربه الشيخ محمد السحابي أنه معروف ويدرس القرآن بسلا وتحركاته معروفة، ويتساءل كيف تقرر أخذه إلى مقر الأمن؟ لكنه يؤكد أن: على المسؤولين بالدولة أن يثقوا في العلماء والفقهاء، وإذا لم يثق المسؤولون في الفقهاء وأهل القرآن وأهل العلم، ففيم يثقون؟ ونحن نكن للمسؤولين المحبة والخير، وشخصيا لا أشعر بالفرق بيننا وبينهم، بل فيهم خيار الناس في الإسلام والتدين، إلا أن أخذي إلى مقر الأمن يخيل أني متهم، وإن لم يوجهوا إلي أي تهمة، وكل هذا يدل على أن هناك شكوكا دفعت لمثل هذا التصرف، وهذا أثر في نفسي كثيرا. وأنصح المسؤولين أن يتعاملوا معاملة ذكية مع القضايا الحساسة، ويتصرفوا تصرفات حسنة مع المواطنين وأهل العلم خاصة. ففي حالة الغضب والأحداث الهائلة، ربما لا يحتكم الإنسان إلى عقله، وفي هذه الأمور لا بد من تغليب رصانة العقل، لا أن يتم تجميع الناس بشكل عشوائي، لأن هذا السلوك فيه ضرر كبير، وأنا على يقين بأن الذين قاموا بالأحداث لا يعرفهم أحد، ولم يكن معهم أحد. وأن يتم تجميع كل من قال كلمة فيها شيء من الشدة أو أن يقول الخطيب بعض الكلام، وربما ينتقد بعض تصرفات الجهات أو إدارة معينة، فلا بد هنا من تغليب الحكمة، وللأسف فقد سجن أناس بأمور بسيطة كان من الممكن أن لا تكون. الأمن نعمة وفي نظري أن أصحاب الحدث أهل فوضى، وبهذا السلوك تكون فوضى مثلها. ونسأل الله تعالى أن تبقى هذه البلاد في أمان ومحبة ومودة، وكلنا يتحمل مسؤولية أمن البلاد وطمأنينتها، لأن الأمان نعمة. وقد يظن بعض الناس أن الأمن هو لهم فقط، بينما الأمن حق لكل مغربي، وهو حريص على أمن البلاد، وإذا لم يكن الفقهاء والعلماء والدعاة من أشد الناس حرصا على أمن البلاد فمن يكون حريصا على الأمن؟ وإذا لم يكن هذا الصنف من الناس يتحمل هذه المسؤولية فمن يا تراه يتحمل ذلك؟ ولا بد من التعاون في هذا من لدن الجهات المختصة والمكلفة بالأمن، وكذلك المجتمع من مثقفين وأساتذة وفقهاء ورجال الإعلام، على أن تصب جهود الكل في هذا القالب، وما دام الأمن نعمة فلا يجوز لأحد أن يقضي على هذه النعمة، لأن الله تعالى امتن على عباده بها في القرآن الكريم: (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم)، وكذا دعاء إبراهيم عليه السلام (رب اجعل هذا البلد آمنا..)، وهناك الكثير من النصوص القرآنية والحديثية تشير إلى أن حرمان الأمن من أعظم المصائب، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: من أصبح آمنا في سربه، عنده قوت يومه، معافى في جسده، فقد حاز الدنيا بحذافيرها أي بأجمعها. ولا ينبغي لأحد أن يحرم نفسه والآخرين من هذه النعمة، ومن أصول ديننا وإيماننا وما نعتقده أن نحب لبلاد المسلمين الأمن والاطمئنان وأن تسود المحبة فيما بينهم.ولا بد لكل داعية أن يزرع المحبة ويجمع القلوب، لا أن يشتتها ويحرض البعض على البعض، لأن هذا السلوك من شأن أهل الفساد. ومادام الحدث جاء غريبا عن المجتمع المغربي، فهو مثل كل حدث يفاجئ الناس ويهز مشاعرهم، خاصة وأنه ذهب بأرواح بريئة، لا بد أن يتأثر كل إنسان بما حدث، ويتحول الواقع في نظره، ويستقبح هذه الأفعال الشنيعة. ونسأل الله تعالى العافية، أو كما يقول المغاربة في التعبير الدارج: الله يحد الباس على هذا البلد وجميع بلاد المسلمين.