بعد 23 شهرا من التحريات والتحقيقات وجلسات الاستماع العمومية لكشف ماضي الانتهاكات في المغرب في الفترة ما بين 1956 و,1999 رفعت هيئة الإنصاف والمصالحة تقريرها الختامي لجلالة الملك محمد السادس، مختتمة بذلك مهمتها التي بدأتها في يناير من العام الماضي. وضمنت الهيئة تقريرها الذي جاء في أزيد من 700 صفحة مسار عملها وآلياتها والمعايير التي جرى اعتمادها والظروف التي اشتغلت فيها وتعاطي المسؤولين معها خلال جلسات التحقيق والاستماع في إطار البحث عن حقائق الماضي، كما ضمنته عددا من التوصيات الهادفة إلى طي صفحة الماضي وضمان عدم تكرار الانتهاكات التي حصلت خلال الفترة المشمولة بالتحقيق. تجربة متفردة وقد استقطبت الهيئة وكذا التقرير الختامي اهتماما إعلاميا واسعا على الصعيد الوطني والعربي والدولي، بالنظر إلى أن التجربة التي دشنها المغرب تعد سابقة أولى من نوعها في الساحة العربية من المحيط إلى الخليج، ولجرأة النظام المغربي على النبش في ماضي النظام السابق الذي يعتبر هو ذاته استمرارا له. وشكل التقرير الذي أنجز بتعليمات من الملك ورفع إليه في النهاية شهادة من الدولة وعلى رأسها المؤسسة الملكية بأن هناك مرحلة جديدة تلجها البلاد وتقطع مع الماضي بكل أساليبه وسياساته التي سادت خلال تلك الفترة، وبداية مرحلة جديدة تطبعها سيادة القانون، بالرغم من أن إصدار التقرير يتزامن مع تصاعد نداءات المنظمات الحقوقية المغربية والأجنبية الداعية إلى وقف التجاوزات الحاصلة اليوم في التعاطي مع عدد من القضايا، ومن بينها المتابعات الأمنية التي لا تزال مستمرة على خلفية تفجيرات الدارالبيضاء في 16 ماي .2003 البحث عن الحقيقة غير أن وضع التقرير الختامي لم يكن نهاية البحث عن الحقيقة، بل إنه فتح المجال لمرحلة يمكن تسميتها بمرحلة ما بعد هيئة الإنصاف والمصالحة. فالأكيد أن الهيئة اعترضتها عدة عقبات حالت دون إجلاء الحقيقة كاملة في عدد من القضايا وأحيانا عرقلت الكشف عن قضايا أخرى، كما أشار التقرير الختامي الذي تحدث عن اختلاف في درجة التعاون معها لدى بعض المسؤولين السابقين الذين عاصروا المراحل التي جرت فيها الانتهاكات، أو المسؤولين الذين لا يزالون في مواقعهم. وكان من شأن هذا أن يحيط عمل الهيئة بنوع من التشكيك في عملها النهائي ويجعله عملا ناقصا بالنسبة لبعض الأطراف التي لم تكن راضية سواء على طريقة عمل الهيئة أو على المعايير المعتمدة أو على نوعية الانتهاكات التي حددت مجال عملها فيها. أولى ردود الفعل جاءت من الجمعية المغربية لحقوق الإنسان التي طالبت بتشكيل اللجنة الوطنية المستقلة للحقيقة التي سبق وطالبت بها المناظرة الوطنية حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المنعقدة بالرباط عام .2001 وصرح رئيس الجمعية عبد الحميد أمين أن ملف الانتهاكات في المغرب سيبقى مفتوحا لأن عمل هيئة الإنصاف والمصالحة لم يمس أنواعا أخرى من الانتهاكات حددها في التعذيب والمحاكمات الجائرة والإعدام خارج نطاق القانون ونزع الممتلكات والتقتيل الجماعي في المظاهرات والنفي القسري.كما أخذت الجمعية على الهيئة عدم تحديدها للمسؤوليات الفردية والجماعية عن الانتهاكات الماضية. أما ثاني ردود الفعل على عمل الهيئة فقد جاء من منطقة الريف التي شهدت أحداثا مأساوية في الفترة ما بين 1958 و,1959 حيث طالبت عدة جمعيات من المنطقة الموقعة على إعلان الريف المنبثق عن الملتقى الذي نظم في السنة الماضية حول الانتهاكات التي مست المنطقة في الفترة المذكورة بإجلاء الحقيقة فيما يتعلق بتلك الحقبة. ردود الفعل هذه سوف تؤدي إلى فتح نقاش وطني مجددا حول انتهاكات الماضي، ما يعني أن ملف الماضي لم يطو بعد لأن هناك مساحات فراغ لم تملأها الهيئة تظل في حاجة إلى إلقاء الضوء عليها، الأمر الذي من شأنه إدخال البلاد مجددا في حلقة جديدة والبقاء في الماضي، ومن تم المزيد من استنزاف مالية الدولة في التعويضات. فهل يمكن القول إن ما حصل ناتج بالدرجة الأولى من عدم حصول نقاش وطني حقيقي منذ البداية بين مختلف القوى السياسية والمدنية وعائلات الضحايا وممثليهم حول تعريف الانتهاكات ومداها والمعايير المأخوذ بها للتعويض؟، هذا ما تكشفه ردود الفعل الأولية على التقرير النهائي للهيئة حتى الساعة. فالبعض يرى أن المسطرة التي اعتمدتها الهيئة لم تكن منصفة لجميع الضحايا، والبعض يرى أن غضت الطرف عن بعض الجرائم التي حصلت في بعض المراحل أو في بعض الجهات، فيما يرى طرف ثالث أن الهيئة لم تكن تملك الصلاحيات الحقيقية للذهاب حتى النهاية في طريق البحث عن الحقيقة. نقطتا خلاف يمكن القول بأن التقرير النهائي للهيئة تضمن توصيات جريئة تعد في حالات عديدة منها تكرارا وتنويعا على مطالب كانت ترفعها من قبل الجمعيات الحقوقية في البلاد ولا تلقى صدى لدى المسؤولين، لكن تضمينها اليوم في تقرير شبه رسمي يرفع إلى الملك يشير إلى وجود إرادة سياسية قوية على التعاطي معها من منظور مختلف. أهم توصيات التقرير الإشارة إلى ضرورة متابعة ملفات انتهاكات الماضي وضحايا المرحلة السابقة، وإحداث أرشيف خاص لتدوين أحداث تلك الفترة لتكون عبرة للجيل الحالي والأجيال التالية، والدعوة إلى الفصل بين السلطات والتنصيص في الدستور على منع تدخل السلطة التنفيذية في عمل السلطة القضائية، وكذا التنصيص الدستوري على الحريات الأساسية للمواطن كحرية التنقل والتعبير والرأي، ومنع الاحتجاز خارج القانون والاختطاف والتعذيب والجرائم ضد الإنسانية. وأكدت التوصيات أن تدعيم دولة القانون في المغرب يتطلب إصلاح الجهاز الأمني بجميع مراتبه. وفيما يتعلق بقضية الإفلات من العقاب، اعتبرت التوصيات أنه يستدعي، بالإضافة إلى الإصلاحات القانونية، بلورة وتفعيل سياسات عمومية في قطاعات العدل والأمن وحفظ النظام والتعليم والتكوين المستمر. ويلاحظ أن من ضمن توصيات التقرير مسألة تثير حساسية خاصة مرتبطة بخصوصية المغرب كبلد إسلامي، وهي مطالبة التقرير بالتأصيل الدستوري لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، وذلك عبر ترسيخ واضح لمبدأ سمو المعاهدات والاتفاقيات الدولية ذات الصلة وبشكل عام معايير القانون الدولي والقانون الإنساني على القوانين الوطنية. وهي قضية قد تؤدي بالمغرب إلى إسقاط تنصيصه الدستوري على كونه بلدا إسلاميا، لأن مثل هذا التنصيص سوف يصبح محمولا على غير حامل، مادام أن المواثيق الدولية هي التي ستملي القوانين الداخلية وتصبح المرجعية الرئيسية التي يستند عليها التشريع المغربي. وإذا كان المغرب حتى الآن قد رفع تحفظاته على بعض القوانين الدولية مثل تلك المتعلقة بالمرأة والطفل، فإن آثار سمو المواثيق الدولية على القوانين الوطنية ستكون أخطر بكثير بحيث تمس بالضرورة حتى المؤسسة الملكية نفسها القائمة على تقاليد مرعية منذ قرون، حيث سيصبح من حق بنت الملك أن ترث الملك إذا كانت هي الأكبر سنا عملا بالمساواة بين الجنسين، وهو الأمر الذي تجري مناقشته حاليا في إسبانيا بعد ميلاد مولود أنثى للأمير دون فيليبي وزوجته دونيا ليتيزيا، هيليوينور، إذ من المتوقع أن يتم تعديل الدستور لإقرار حق المولود البكر في وراثة الملك، ذكرا كان أم أنثى. هذا علاوة على ما يتعلق بالسماح للشواذ بإنشاء زيجات فيما بينهم على أساس النوع، والتمادي في توسيع مجال حرية الطفل والمرأة لضرب خصوصيات المغرب الثقافية والحضارية والدينية. ومن جانب آخر أوصت الهيئة في تقريرها الختامي بأن يقوم الوزير الأول، بعد تقديم تقريرها النهائي، بالإدلاء بتصريح أمام البرلمان، يتضمن اعتذارا رسميا باسم الحكومة عن مسؤولية الدولة عن ما تبث من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في الماضي، غير أنه بالنظر إلى المآخذ المتزايدة حول عمل الهيئة والدعوات المتكررة إلى إيلاء الاعتبار لملفات أخرى لم تتعاط معها هذه الأخيرة بشكل كامل، قد يجعل هذه التوصية مفتوحة وتصبح الحكومة في هذه الحالة مدعوة إلى تكرار اعتذاراتها عن كل مرحلة مرحلة، مما يدخل المسألة ضمن مجال العبث. ويبدو أن تقرير الهيئة سوف يطلق جدلا كبيرا حول هذه القضايا وصراع الهوية، بمثل ما إنه سوف يطلق جدلا بشأن الحسم في ماضي الانتهاكات وعدم كفاية ما أقرته الهيئة.